بين تكريس سلطة الأمر الواقع والفدرالية


 

أعلن "مجلس سورية الديمقراطية" (مسد)، نيّته عقد ملتقى حواري يجمع بين أبناء منطقتي الجزيرة والفرات شمال شرقي سورية، بهدف "تعزيز الإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سورية". وبحد زعم رئيس المجلس السرياني السوري فإنه "بعد انتهاء قسد من حربها على الإرهاب في شرق الفرات أصبح الطريق ممهداً للالتفات إلى قضايا أهل المنطقة الداخلية، وتطوير تجربة الإدارة الذاتية وتوسيعها". 

ويصب الاجتماع في صالح ترسيخ الوضع القائم في المنطقة التي بالرغم من أن العرب يشكلون غالبية سكانها، إلا أنها تتميز بـ"التنوع العرقي"، حيث تضم العدد الأكبر من أكراد سورية، والسريان والآشوريين، وجزءاً من تركمان سورية، إضافة إلى عدد محدود من الأرمن والشركس. وتشهد المنطقة تململاً عربياً بدأ يطفو على السطح من تحكّم الأكراد بمفاصل القرار العسكري والسياسي والأمني والاقتصادي والتعليمي.

تأتي الدعوة إلى عقد الاجتماع في خضم حوار كردي كردي بين أحزاب "الإدارة الذاتية"، وفي مقدمتها "حزب الاتحاد الديمقراطي" المهيمن على "قسد"، وبين أحزاب "المجلس الوطني الكردي" الذي يبحث عن دور رئيسي في إدارة منطقة شرقي نهر الفرات، بالإضافة إلى لعب دور سياسي في المشهد الكردي السوري.

على هامش إستعداد المجلس الوطني الكردي لعقد لقائه الثاني مع حزب الإتحاد الديمقراطي، كان هنالك لقاء منذ أيام على منصة اللقاء السوري ضم السيد فؤاد عليكو ممثل المجلس الوطني الكردي في الإئتلاف السوري إضافة للسيد وليد حاج عبد القادر، وتمحور اللقاء حول مجموعة من الأسئلة قدمت لتوضيح رؤية المجلس الوطني الكردي ومؤيديه حول الهوية ومستقبل سورية، وتضمن اللقاء للأسف بعض المغالطات التاريخية التي تعكس رغبة المجلس الوطني لفرض تصوره للمنطقة والتي بدأت بتثبيت ما يسمى بـــ "كردستان سورية" والتي تدحضها الوثائق التاريخية حيث تتضمن أن ظهور مصطلح كردستان جغرافياً يعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي في عهد السلاجقة، ليشمل الإمارات الكردية في تركيا وإيران، وجرى تحديد علمي لخريطة كردستان الجغرافية أيدته لجنة عصبة الأمم في عام 1920 يحصرها بين أربعة دول (العراق، وإيران، وتركيا، والإتحاد السوفيتي) ويشكل 65% منهم في الولايات الكردية في الدولة العثمانية السابقة بدءاً من ولاية أرضروك إلى أورفة والأزيغ.

ويعيد البعض نشأت المشكلة الكردية من تحطيم مشروع الكيان السياسي الكردي في تركيا وتحول الأكراد إلى أقليات في الدول الحديثة وفقاً لمعاهدة لوزان 24/07/1923، بينما معاهدة سيفر 10/08/1920 نصت على قيام الكيان في ولايات ديار بكر ومعمورة الأزيغ ووان وبتليس وهو ما يعرف حالياً بـــ (كردستان التركية).

أما المجتمع الكردي السوري الحديث، فيجب تمييز أكراد الدواخل من أكراد الأطراف. ويعود أكراد الأطراف معظمهم إلى موجات الهجرة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى حيث تهجير (الأرمن والآشوريين والسريان) وغيرهم مع موجات بشرية كبيرة من الأكراد إلى الجزيرة السورية الحديثة في جنوب خط سكة الحديد.

أما موجة الهجرة الثانية الأساسية فكانت بين عامي 1924 ~ 1943 على خلفية التلاقي بين السياسة الإثنية الفرنسية وسياسات القمع الإثنية الكمالية للمسيحيين والأكراد وتألفت هذه الهجرة من العشائر الكردية في ولايتي ديار بكر ومديات وإستقر معظمها في الجزيرة السورية.

وبخصوص المجتمع الكردي في الجزيرة السورية فإنه نشأ من تدفق الهجرات من شمال خط سكة الحديد إلى جنوبها بعد رسم الحدود السياسية الفاصلة بين سورية وتركية، وشكل هذا المجتمع من الناحية الديمغرافية حجماً كبيراً وفق طبيعته التنظيمية الإجتماعية العشائرية، لكن بنية هذا المجتمع إختلفت جذرياً عن بنية المجتمع الكردي السوري التاريخية الشامية السابقة له والمندمجة في دورة حياة البلدات والمدن الداخلية.

ولقد تنبهت إلى ذلك الحكومة السورية عام 1931 التي شكلت لجنة برئاسة وزير المعارف محمد كرد علي (الذي وصفه وليد حاج عبد القادر بالخائن لكرديته)، يقترح إسكان المهاجرين من العناصر الكردية والسريانية والأرمنية واليهودية في الداخل السوري وأن يمزجوا المهاجرين الكرد والأرمن بالعرب في القرى الواقعة في أواسط البلاد لا على حدودها، إتقاءً لكل عادية تطرأ.

وإن كان البعض يحلو له اللعب على وتر اتهام العديد من الباحثين بأنهم رجال مخابرات أسدية، أو بأن أفكارهم بعثية، فإنه في البحث عن مشكلة الإحصاء الإستثنائي التي يتهم بها البعث زوراً، ففي الحقائق التاريخية أنه بقرار الحكومة السورية بتسجيل المهاجرين تحت أسم المكتومين خلال الأعوام 1943~1950 أدى إلى بروز الهويات المزورة وصدر في هذا السياق في عام 1950 قانون إجراء الإحصاء من قبل حكومة ناظم القدسي إلى مجلس النواب، ولم ينفذ في حينها بسبب نقص الإعتمادات.

وفي حزيران 1962 قدرت مصادر محافظة الحسكة بأن عدد المتسللين أصبح كبيراً جداً، وأن 60% من أكراد سورية هم سوريين أقحاح فقط، أما الآخرين فقد دخلوا سورية خلسة من تركيا أو العراق، واتخذت وزارة الداخلية في حكومة بشير العظمة بناءاً على ذلك قرار الإحصاء، ونفذته حكومة خالد العظم في تشرين 1962، واعتبار السوري هو كل من كان مسجلاً في قيود الأحوال المدنية قبل عام 1945، وكان الهدف هو تحديد موجة الهجرة غير الشرعية واستثنائها من السكان وحرمانها من الإستفادة من أراضي الإصلاح الزراعي، وقد عين العظم سعيد السيد محافظاً على الحسكة لتنفيذ هذا الإحصاء. وعملياً فإن سعيد السيد هو من صاغ الإحصاء الإستثنائي مستنداً على فكرته بأن (هجرة الأكراد الأتراك إلى سورية تشكل خطراً كبيراً على سلامة سورية) وهنا بدأ البرنامج الحكومي الذي قام على التعريب اللغوي للأكراد وتغيير التركيبة الإثنية للجزيرة.

هذه السردية أعلاه التي هي قبل حكم البعث، عملياً توضح محاولات تشويه التاريخ من قبل البعض، الذي مازلنا نذكره، والذي لم تضيع وثائقه بعد، فكيف يمكن القفز منها إلى ضرورة الإنتقال إلى الحالة الفدرالية التي يطمح إليها المجلس الوطني الكردي، حسب تعبير السيد فؤاد عليكو، والذي يعتبر أن محافظة الحسكة السورية هي أراضٍ كردية، وهي جزء أساس من كردستان وتمثل له "روج آفا".

إن كانت الثورة السورية هدفت إلى إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد يتم به بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: الحرية/الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية/التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية. هذا الحلم تؤيده شرائح اجتماعية متسعة، إلا أنه في الوقت ذاته يثير هواجس ومخاوف فئات أخرى من تداعياته التي باتت حقيقة مؤكدة في سورية؛ حيث أننا نعاني من تقويض الاستقرار السياسي والاقتصادي الهش الذي كان يسود في سورية قبل الثورة، إضافة إلى وجود لا يقل عن عشرة ملايين لاجئ معظمهم في أوربا ولبنان والأردن وتركيا، ولكن هذا لايعني بأي حال بأن هذه النتائج هي وليدة الثورة، بل هي ضريبة يفترض بنا دفعها لتحقيق أهداف الثورة، ولايمكن لأي جزء من شعب سورية الحصول على مكاسب على حساب باقي أبناء الوطن، ويدعي الإصطفاف مع الثورة وأبناء شعب سورية.

وإن كانت الفترة الانتقالية الحالية تهيمن الهواجس فيها على الجميع، فإنه لا يمكن أن يكون الحكم خلالها إلا بالتراضي، ولهذا يجب أن تكون هناك دائماً سياسات وخطابات طمأنة لمواجهة الشعور بعدم الأمان على المصالح؛ مصالح الدول والفئات الاجتماعية، والهوية، والقوى السياسية والحزبية الأضعف، والأقليات العرقية والثقافية والمذهبية والدينية.

وفي هذا المسعى فإننا نعتقد بأن المحاولات التي يقوم بها الطرفان الكرديان في شرق الفرات لا توحي بالثقة، وإنما تعكس أحلام تثير في الغالبية السورية المزيد من الإحتقان والريبة، وتعود بنا إلى الأجواء التي سادت في عام 2004 عقب الغزو الأميركي للقطر العراقي الشقيق. فدروس التاريخ تعلمنا أنه لا يمكن الإرتهان إلى الأجنبي في النيل من حقوق الأخوة في الوطن الواحد، ولا يمكن بأي حال استغلال لحظة ضعف لتثبيت شروط عقد مجحف.

 

 

د. م. محمد مروان الخطيب

كاتب وباحث سوري


 

Whatsapp