توفي مختارُ الضيعة بعد تعرضه لحادث أليم، فقد انزلق من فوق قبة الحمام العام أثناء ممارسته لهوايته الأثيرة: التلصصُ على النساء العرايا يلفُهن الضباب بهالة تثيرُه.
الصبي الصغير الذي رآه ممدداً منقوعاً بدمه، أسرع ينشرُ الخبر.
قالت زوجة المختار في محاولة منها لتبرير تواجدِه في تلك الناحية من الحمام:
"كان يطمئن على راحة رعاياه". وبارتباك حزين شرحت: الأمر يتعلق بقلة المياه، وعليه التأكد."
لكن.. عبثاً فالأسرار كما يعرفُ الجميع هي الأسرع انتقالاً.
في النعوة الرسمية أسموه فقيداً وشهيداً، وفي سرداق العَزاء تنافس المفوهون على ذكر مناقبه: خلوق.. مهذب ..عفيف.. يراعي حرمةَ الناس.. ويتفانى في تلبية مطالبهم، وألقى الشعراء أبياتاً تتقطع لها نياطُ القلب تذكرُ مآثرَه.
انتهت أيامُ الحِداد. أربعون يوماً وليلة.
خلعت النساءُ السواد الذي جللهن، واجتمع وجهاء الضيعة لاختيار خلفٍ للمختار، فالفقيد -أصلحه الله وأراحه في قبره-لم يكن يتوقعْ موتَه المفاجئ، ولم يسمي بعده وريثاً لمقامه، أما ابنه فمازال رضيعاً، ولن تهابه الضيعة فيما لو باشر مهام المخترة.
امتدت النقاشات أياماً بطولها. كانت مهمة صعبة. الفلاحون البسطاء مشغولون بزراعة الأرض، أما كبار السن منهم فمرضى إلى درجةٍ تعوقُهم عن إبداء رأي سديد.
في النهاية لم يجدوا حلاً ولا متطوعاً ما جعلهم يمددون ليالي العزاء، متحسرين في مجالسهم على أيامهم الماضية حين كان لهم مختاراً يؤهل ويسهل، ومضافة يقصدها الضيوف من كل حدب وصوب، أما الآن فما عاد يُسمع في الليالي الطويلة صوتُ المهباج، ولم تعد تفوحُ رائحةُ القهوة، ولم يعد ينقل الهواءُ ضحكاتِ المتسامرين.
صارت ضيعة يتيمة دون مفاخر، وبلا مختار، وهذا ما جعل النساء -قاتلهن الله-يقترحن أن تتولى واحدةٌ منهن –مؤقتاً-المنصبَ الشاغر. حتى يكبُر الرضيعُ، أو يقضي اللهُ أمراً كان مفعولاً.
لكن أمّ حمزة -وهي صاحبة الاقتراح-نالت نصيبها من الصفعات، فأبو حمزة لم يستطع السكوتَ عن ترهاتها، وهددها إن فكرت مجرد تفكير بهكذا قصة، فستنام ليلَتها في دار أهلها.
يقالُ إن يمينَ الطلاق أخاف حواء الأولى حتى وهي تعرف بأن لا بديل لها على وجه الأرض، ولن تكونَ أم حمزة استثناءً.
خافت.
أقفلت فمَها، وضمدت جُرح شفتها المصابة، وربطت رأسَها غير المشجوج بشدة خوفاً من أن تتسربَ الفكرةُ منه ليلاً، ويقع يمينُ الطلاق وإن عن غير قصد.
"أي شيطان رجيم هيأ لي هذا الحل.. امرأة مختارة.!"
راحت تتمتم بينها وبين نفسِها، فيما كانت تنشرُ حبوبَ القمحِ على السطحِ لتجف.
قاربتْ كرومُ التين والعنب على النضوج، وأعيادُ الحَصاد لن تكون مبهجةً بلا مختار.
اقترح بهلول الضيعة -وربما كان يمزح-بأن يصنعوا تمثالاً للمختار ينوب عنه في الأيام القادمة. استحسن رجال الضيعة اقتراحه بمن فيهم أبو حمزة.
استقدموا من المدينة نحاتاً اشتهر صيتُه وذاع.
يشاع عن تماثيله بأنها تكاد أن تكون نسخة طبق الأصل، ولا ينقصُها في بعض الأحيان إلا أن تنطق.
بلا تلكؤ بدأ الفنان الشهير عملَه. قبعَ داخل غرفة كبيرة بلا نوافذْ، ولم يَسمح لأحد بالدخول إليه.
نساء الضيعة دأبن على إرسال البيض والجبن، وما يخبزنه في تنانيرهن كل صباح، أما الرجال، فيمرون مساء يقضون وقتهم في التحدث إليه ومسامرته. ينقلون له أوصاف المختار؛ شارباه .. شعرُه الأبيض.. وهيبتُه.. شرواله.. وحزامُه العريض.
بالطبع لم يخبره أحدٌ علانية بحادثة السقوط من فوق سطح الحمام، ولا بسوطه اللاسع كلما ثار غاضباً، ولا باستيلائه السنوي على نصف ما تنتجه أراضيهم، لكنه عرَف التفاصيلَ همساً من أفواه الجميع.
انقضى صيفٌ، وصار التمثالُ جاهزاً.
من أجل المناسبة اُشعلت النار في الساحة، وذُبحت الخرفان، وتكلف أبو حمزة الذي يملك تركتوراً بنقل التمثال إلى حيث اجتمع أهلُ الضيعة كباراً وصغاراً ينتظرون بفضول أن يسحبَ الفنانُ القماش عن تمثاله.
فترةٌ من الصمت أعقبت ظهور المختار.
كأنه لم يسقط.
كأنه لم يمت.
وما أن هتف بهلول الضيعة: "طولت الغيبة يا مختار" حتى لوّح التمثال بسوطه، وتساءل بصوت هادر: من الذي سولت له نفسه ليأخذ مكاني؟
حينها قفزت أم حمزة من فوق كرسيها، وولت هاربة، فيما بدأ الجميع يصفقون.. ويصفقون.. ويصفقون.
سوزان خواتمي
قاصّة وكاتبة سورية