نحنُ مغروزون في مستنقع، مشينا إليه مسحورين بخطى وادعة وبعيون مفتوحة، أغلبنا ما زال يخوض فيه ولا يشعر، وكثيرون لا يريدون اكتشافه، أو فقأ فقاعات تفاعلاته النتنة.
ولكن هذا لا يعني أبداً أنه غير موجود، أهملناهُ وتغاضينا عمّا لا يمسّنا حتى اتّسع وعفّنَ حيواتنا، امتصّنا بنعومة أفعى، فمنحنا رائحته وملامحه القميئة، حفرناه بغباءٍ لمشاريع معادية، ثم وجّهنا له كل مكتنفاتنا العفنة في بعض أطرافه عميقاً، ونحنُ مرميون كجثثٍ مدفونة به على وجه السرعة، بعضنا ما زالت أطرافه ناتئة لم يتسنَّ لمقاولي الدفنِ إتمام المواراة.
المستنقع عارم بالقصب والثعابينُ تزحفُ وتتمرّا مع القصب بشموس لا تدفئ، مخلوقات بغيضة من أسماك الزبّال والثعابين وشراغيف ناتئة بذيلها تعيش في الوحل وتتغذى على القذارة، كعهدها المنصرم في أزمنة الديكتاتوريات التي ترتعش في خريفها المكتمل.
يفاجِئوك بعناقهم المزيّف وضحكاتهم الصفراء المتدليّة من زوايا شفاههم الرخوة، كتّابٌ مغرورون، مدونون مهوسون بالذات ومحررون ثقافيون ومروّجو شذوذ يساريون، ومتسولون سرّاق ملتحون يتجولون في كل المناسبات، وأحيانا بلا مناسبة.
متورطون في السياسة والفنون والأدب والنقابات والعمل المدني والتعليم والرياضة والمواخير والدعارة وترتيب زواجات المتعة والمسيار الشرعي، يتصيدون ظهور بارقة مصيبة أو تنسّموا عفونة ذي مال وسطوة، هؤلاء من فصيلة شجيرات الشيطان التي تنمو في أغلب الأحيان بلا كثير رعاية لتنمو وتتشعب تحت أقدامنا بشكل مخيف.
القصب يظهر قوياً مغروراً بجسده الصقيل المُخصّر بعقدٍ لافتة لكنهُ أجوف. بعضكم ليس لديه فكرة واضحة عمّا أكتب عنه واختبرته لكوني فلّاحاً أولاً، ولأني أخضعت روحي وعقلي لممارسة التأمّل والتفكير بالتفاصيل التي قد تواجهني أو تفعل بمجرّد الشروع بعمل ما، وعلى صعيد القصب تعرضت مؤخراً لتجربة مؤثّرة وعميقة حين وقعت مع البلديّة عقد حيازة حديقة شخصية، وقدموا لي قبل ذلك شروط الحيازة والنظام الداخلي للحدائق، كي ألتزم بها مما يُجنّبني المخالفات، ومن ضمن الشروط التي اعتبرتها مضحكة في حينها، أنه يمنع أن يطول القصب - البامبو - أكثر من مترين وكان المانع من وجهة نظرهم كي لا يحجب الإطلالة عمّن هم محيطين بك، ومن سوء حظّي وجدت بقعة من القصب كان قد زرعها مالك الحديقة السابق.
في الفترات اللاحقة قصصت ما كان متعالياً منها ثم أتعبني مما اضطرني لاجتثاثه ورشّ الملح فوق بقاياه، وتغطيته بحصير بلاستيكي كتيم أسود يحجب الضوء وأي فرصة نمو له وثقّلت الغطاء بقطع من الأحجار والبلاط وحاولت السيطرة على نموه، ولكن عبثاً لأني اكتشفت تمدد جذوره ونبوغه من أماكن بعيدة متجاوزاً محاولات خنق نموه، ومُفسِداً أي زراعة مُحيطة به.
في المحاولة الجذرية للقضاء عليه اضطررت بالقزمة والمرّ، لحفر بقعة الأرض التي ينبت بها عميقاً واقتلاعه من الجذور لأكتشف كتل جذوره المخيفة والمتعفّنة والمتفرّعة بشكل مذهل والمتحفّزة للتمدد.
ما وجدت حلّاً سوى نبش الأرض دون أن أترك أي أثر لعقدة جذور واحدة لأنها ستكون بؤرة انتشار جديدة بمجرد حصولها على مهلة بسيطة وبعض الرطوبة.
غربلت التربة واخرجت عقد الجذور وتركتها تتعرض للشمس في بقعة عارية حتى تجف وتفقد أية فرصة للنمو مجدداً ثم جمعتها بوعاء وأحرقت الجذور، وعزقت الارض مجدداً لاستثمرها بزراعة مفيدة.
ثم وجدتُ خلال تأملي في التجربة ما هو أسوأ من القصب والديدان والأفاعي والعظاءات التي تتجوّل دون خوف من عوائق انزلاقها بنعومة، وجدت البؤر الدولية الصلبة أخطر بكثير من إبليس حين تتولى بوقاحة وسادية زراعة القصب وتمدّدهِ، وتنافحُ عن حقوق الأفاعي.
محمد صالح عويد
شاعر وكاتب سوري