إنها الحقيقة أيها السّادة


 

 

لم تعد الكوميديا السياسية مادّة فنية تصلح للفرجة في بلادنا العربية، لقد كفّت عن أن تكون مصدراً للحصول على المتعة والترفيه، وعلى قليلٍ من التحريض العقلي والوجداني ربّما، فهذا الفنّ الساخر الذي ينتقد الواقع السياسي ويلجأ للمبالغة والتعرية والاستهزاء لم يعد يثير دهشتنا وليس شيئاً يذكر أمام حياتنا في أوطاننا وقد باتت مسرحاً مستمرّاً للامعقول نعيش على خشبته الحادّة والمتشعبة بلا أدنى وقتٍ للراحة وشرب الشاي أو منقوع البابونج. لعلّه فيلم طويل لكنّه عربيّ هذه المرّة يحفل بالكوميديا السوداء والتراجيديا المتوحشة. 

في هذا الشريط السينمائي المتواصل لست أكثر من كومبارس يؤدّي دوره الهامشيّ المحدّد بدقة وحذر، لا يسمح لك بالخطأ أو بالتجاوز على النصّ، ولا بالاطلاع على أدوار سواك من الممثلين أو معرفة كامل الحكاية وأين ومتى وكيف يمكن لها أن تنتهي. أمّا أدوار البطولة فقد حجزت لكتاب السيناريو وللمنتج والمخرج وفنيي الإضاءة والديكور بطبيعة الحال.

لا يدخل الكلام السابق في باب الآداب والفنون وفضاءاتهما، ولا يمكن قراءته من وجهة نظر نقديّة تفسّر عباراته على أنّها من قبيل الانزياح والمجاز والتخييل، إنّها الحقيقة أيّها السادة "الآدميّون" بعيداً عن التزييف والتجميل، إنّه واقع "المستوطن" المنبوذ المعذّب، والمذبوح بشرط وجوده، في بلدٍ تنطق غيومه وذرات مياهه وحبّات رمله وترابه بأسماء جدّاته عشتار وكليوباترا وزنوبيا وآمنة وعائشة..، ويؤكد التاريخ بأنّ أرضه وماءه وسماءه كانت مرتعاً لطفولة أجداده من أنبياء وعظماء منذ بزغت أوّل شمس للحياة على هذه الكرة المتدحرجة التي يسمّونها كوكب الأرض.

هل هناك أكثر عبثية ومأساوية وسوداوية من أن يحتلّ قصورنا الرئاسية، ويتصدّر المشهد السياسيّ لبلداننا، الأهبل والمعوّق والمحفّض والمخنّث والبندوق والخصيّ وذيل الكلب.. إنّه واقعنا السرياليّ الفاقع الذي نعيش نحن سكان هذي الخرائب التي غدت حقولاً تنبت الخيام والبؤس، وتكتظّ أفواه قاطنيها بالغبار والبارود والدمّ، وتصرّ وتنعق في سماواتها أسراب الجراد والبوم. 

لم تشهد بلاد عبر الزمن احتلالاً يماثل احتلال حكامنا لبلادنا، يمارس أبشع الأساليب في قتل أبنائها وسرقة ثرواتها وخيراتها وتبديدها، وتدمير بنيانها ومقدّراتها، وتفتيتها وبيع أجزائها، ورهن مستقبلها بيد أعدائها، والمزاودة، من قبل ومن بعد، بعناوين الوطنية والمقاومة والوحدة على شرفائها، ما يقطع باليقين بأنّ هؤلاء الطغاة ليسوا أقلّ من خونة وعملاء برتبة الحيونة، إن لم يكونوا ينتمون إلى هوّية غير هوية هذه البلاد، وبأنهم جنود مخلصون وموظفون مدربون لدى من غرسهم نبتة شيطانية في تربتنا الطاهرة، وسلطهم على رقابنا.   

إنّ ما يعزّز حقيقة أنّ الطغاة الحاكمين لأوطاننا ما هم إلاّ فئة من الأقليات العائلية المأجورة، أو التي تنتمي لهويّة الأمم المعادية لنا، ليس فقط سلوكها الإجراميّ وسياساتها القهريّة بحقّ شعوبنا وتنفيذها لأجندات تخدم أعداءنا، بل أيضاً سكوت النظام الدوليّ عن انتهاكات هذه الشرذمة من الطغاة وارتكاباتها، ودعمها بكلّ السبل والتغطية على جرائمها ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب، والإمعان في قهر الشعوب المستضعفة سواء بالمساهمة السرّية أو العلنيّة في القتل والتدمير والتهجير. 

لن تنجح أساليب التعجيز والتيئيس في محاولة لتعويم النفايات اللاوطنية المتفسّخة، وإعادة تدويرها وتلميعها سوى في إطالة عمر المأساة السوريّة وزيادة كلفها الباهظة، وفي إنتاج مزيدٍ من أسباب الفوضى والتطرّف. أمّا عدا ذلك فسيكون مصيرها الفشل وستؤذي صانعيها والوالغين فيها.

لا يمكن لسياسة قهر الشعب أن تثمر إلاّ مزيداً من الإصرار على الثورة وأهدافها في الحرّية والعدالة والكرامة، ولا حلّ لهذه النفايات السامّة القاتلة إلاّ في إحراقها وتطهير البلاد من مخلّفاتها وعوالقها.

سينتهي قريباً فيلم الرعب العبثيّ الذي تمولونه وتديرون أحداثه، وستبدأ صناعة عملٍ واقعيّ إنسانيّ مبهر، قصته درس في الانتصار على الطغاة واستعادة الوطن، وفي استعادة الأمن والسلام ومساءلة المجرمين، وفي إعادة التنمية والبناء للإنسان والعمران، أبطاله الرئيسيون من أبناء الشعوب المستنزفة المقهورة، ولتعلموا أيها السفلة الدوليّون والمحليّون بإنّ السوريّين، وكذلك أخوتهم في ليبيا واليمن والعراق وغيرها من الدول العربية، لم يستأذنوا أحداً حين قاموا بثورتهم، ولن يقبلوا في قابل الأيّام من الضالعين في مأساتهم أيّاً كانوا مجرّد الاعتذار وإبداء الأسف والندم.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي 

Whatsapp