المستقبل مبني على الحاضر كما يقول نتشه، فكيف يمكن بناء هذا المستقبل وفق حاضرنا؟
لعل هذا هو السؤال الجوهري للكتاب الجديد للمفكر التركي تورغاي آلدمير باللغة التركية، وهو الكتاب الرابع له، في إطار مشروعه الفكري نحو طرح نموذج معرفي جديد، مبني على القيم الإنسانية ومتسلح بالمعرفة المعاصرة.
جاء الكتاب في 220 صفحة من القطع المتوسط، مقسّماً إلى أربعة أقسام ومدخل، يبيّن الكاتب في مقدمته سبب كتابته للكتاب من خلال طرح السؤال التالي: ما هي القيمة التي سيحملها في المستقبل؟ وبمعنى آخر كيف سيكون وضعه؟ ثم يشير إلى أن هدف الكتاب هو: تناول الوضع الحالي من كل الزوايا، واختيار نماذج سليمة وفق خبرته في محاولة لإنارة الطريق المؤدي للمستقبل.
في القسم الأول يتناول المجتمع المدني عبر أربعة فصول حيث يبين في الفصل الأول الحاجة إلى تشكل فكر جديد، وذلك عبر قراءة جديدة لعلاقات المجتمع المدني، وطريقة عمله، وعلاقة الريف بالمدينة، ويركز على مفهوم المدينة بعمقها الجمعي لا الشكلي، وعلى الاهتمام بالجيل الجديد المتشكل، فله أحلامه وطموحاته المختلفة، ويملك أيضا توقعات مغايرة. ويحزن لمنظمات المجتمع المدني التي تجاهلت ذلك، وكان محور اهتمامها الاغاثة والمعونات المادية الآنية عوضا عن الاهتمام بالجوانب الروحية والفكرية والثقافية، وقد وقعت فيما يعرف بمتلازمة النمر الكسول، التي تعني هدر الوقت والجهد في غير مكانه، حيث تشير هذه المتلازمة بأن النمر يضبط جهده وحركاته حسب الطريدة، فسرعته حين جريه خلف الغزال تختلف عنها مع الأرنب. وأشار إلى مرض آخر ابتلت به منظمات المجتمع المدني ألا وهي عشق المشاريع، فجعلتها غاية لا وسيلة. وهذا ما وقعت به المنظمات العاملة في الباكستان وأفغانستان وسوريا، كما يبيّن ضرورة تحديد العلاقة مع الحكومة والسلطات الحاكمة منعا لأي اضطراب وانقطاع في عملها الأساسي وهو بناء الإنسان.
ويتحدث في الفصل الثاني، عن أهمية التطوع كعنصر أساسي في المجتمع المدني، وربطه مع القلب والعاطفة، فلابد لمنظمات المجتمع المدني من تحسين اسلوبها وعملها لجذب المتطوعين الذين هم عماد أية مؤسسة مدنية، وأن المتطوع والتطوعية والمجتمع المدني هم أقدم وأكبر رأسمال اجتماعي للأمم. وأن الذين غيروا مجرى التاريخ، كانوا العاملين بقلوبهم، وكان لهم قضية وشعروا بآلام مجتمعهم الذين هم فيه.
نقاش قضية التعليم المدني، وهي القضية المهمة والإشكالية الكبيرة التي تعاني منها المجتمعات غير المتقدمة، يأتي في الفصل الثالث من القسم الأول، ويؤكد فيه على أن التعليم المدني ليس منافسا للتعليم الحديث، وإنما وجد لسد العجز، ومع ذلك يرى فشل المجتمع المدني والحكومي في إنشاء جيل جديد. ثم يتناول بإسهاب دور وأهمية التعليم المدني، وأنه القادر على سد الفجوة بين المدارس والطلاب التي توسعت في المدارس التقليدية الحكومية، وينهي الفصل بفكرة مفادها أنّ أكبر قوة لبناء عالم جديد تبدأ بالتعليم.
يسرد تورغاي الديمير في الفصل الرابع من القسم الأول تطور ثقافة الوقف من الماضي حتى المستقبل. وأن المجتمع المدني لم يكن غريبا عن المجتمع المسلم، فما الوقف إلا مؤسسة مدنية، ويبدأ بتعريف الوقف على أنه " تخصيص ملك من قبل المالك لغاية دينية اجتماعية للأبد". ثم يسرد كيف أن أصل المجتمع المدني هو الوقف، وأنه متواجد منذ العصر الأموي حتى اليوم. وأن المجتمع الإسلامي كان سباقا على الغرب الذي لم يكن يعرف المجتمع المدني، لأنه لم ينظم نفسه، ولم يقدر على التجمع.
وينهي السيد تورغاي هذا القسم الهام بتوضيح فكرة كون المجتمع المدني هو القطاع الثالث بعد الحكومي والخاص، وقد بات اليوم القوة الثالثة القادرة على التأثير، ويستشهد بالمجتمع المدني في الغرب الذي كان سببا للثورة المخملية، ثم كيف كان للمدارس التي كانت نتاج المجتمع المدني تأثيرها ودورها في منطقتنا من خلال المدارس الأجنبية التي خرجت طلابنا الذين كان لهم دور كبير في تغيير مجتمعنا. وينهي رأيه بأن المجتمع المدني هو المخوّل لتصحيح الأوضاع.
يتابع المفكر تورغاي في القسم الثاني من كتابه، عن مفهوم المدنية عبر خمسة فصول، تناولت القيم والأنماط، والتوازن بين الكفاح والحياة المعيشة، ويتحدث بإسهاب عن قيم الوحدة والسلام والثقة، ويجلو في هذه الفصول الثلاثة الأولى أهمية منطقة الأناضول كونها حاضنة لكافة المشارب والملل والنحل ولها تجربة طويلة من التعايش السلمي والمشترك، وأن العالم الإسلامي ما هو إلا عائلة واحدة، ويشير إلى ضرورة تحقيق توازن بين النضال في سبيل الحق والحياة الاجتماعية، وبين الحاجة للتوسع في التفكير الاستراتيجي، وأن الله يسمع دعوة المظلوم ودائماً ما يرسل لهم من ظهورهم من ينصرهم. كما يؤكد أهمية السلام والثقة والوحدة، وضرورة التشارك والتشاور لحل المشاكل التي نعانيها اليوم، ويخصص فصلا في البحث عن المفهوم، ويقصد به إيجاد مصطلحات جديدة تناسبنا، تنقذنا من الاضطراب الذي نعيشه، مصطلحات تعزز الثقة وتمنحنا الأمان وتعمم السلام، ثمّ يختم القسم الثاني بفصل عن الإنسان الناقص وضرورة التعلق بالثوابت، فمن لا ثوابت له لا انتماء له. ويستشهد هنا بلوحة " الأيدي الراسمة" للرسام الهولندي إيشر المعروف باستخدامه الرسم لشرح أفكاره الرياضية، والتي تشير إلى أن الكون منظم ومدروس ولا مجال للفوضى الخلاقة، ولابد من التعاون المشترك.
يخصص المفكر تورغاي القسم الثالث في كتابه للمرأة والأسرة والشباب، عبر ثلاثة فصول، يتناول في الأول منها الأسرة تحت عنوان مهم " الأسرة ضمان مستقبلنا" يوضح فيه دور الأسرة وكيف أنها الخلية الأولى والأهم في تنمية الفرد وسط مجتمع سليم، وان العصر الحديث سلب منها هذا الدور، مما جعل الأمراض الفردية، مثل الأنانية والاضطراب وعدم الاستقرار وما يعرف بالصدمة النفسية، سمة هذا العصر. إن استعادة دور الأسرة يعني تعافي المجتمع، والطريق الأمثل لاسترداد هذا الدور يكون في اعتماد الثقافة الإسلامية كخارطة طريق لترتيب البيت الداخلي من جديد ما يتطلب بحسب رؤية الكاتب مشاركة فعالة للشباب، وهذا بالضبط ما يتصدّى لبيانه وشرحه بالتفصيل في الفصل الثاني عن الشباب وتصور المستقبل، مبينا بأن الشباب على رأس المتأثرين بالتغييرات في المجتمع، وهم أبطال المستقبل، وضرورة الاهتمام بهم للوقوف في وجه العولمة التي حيدت المكان واستطاعت اختراق عقول الشباب، ومهتماً بشكل خاص بالشباب المتدين وما يعانيه من تحديات وصعوبات ما بين إمكانية الفعل وبين الحياة الواقعية، والعلاقة بينهم وبين الشاب العلماني، وكذلك علاقتهم مع الأسرة والمجتمع، وأنهم بحاجة لحوض نظيف لكي ينهلوا منه، ثم يقدم لهم بعض النصائح لمواجهة هذه التحديات.
يخصص الكاتب الفصل الثالث للحديث عن الوقت وأهميته، وأنه السلاح في مواجهة متطلبات المستقبل. فكل يوم هو يوم جديد، وادارة الوقت جزء أساسي في صناعة المستقبل. وإدراك الإنسان وخاصة الشاب من أين جاء وأين يعيش وأين سيذهب هو الدرع الواقي من سهام العالم المتوحش.
في الفصل الأول من القسم الرابع والأخير يستعرض الكاتب تورغاي قضايا العالم الإسلامي ومشاكله تحت عنوان "مشاكل الجغرافيا الإسلامية الحالية" موضحاً بأننا نعيش مرحلة مخاض ستشهد ولادة جديدة، ستكون تركيا هي مركزها الرئيسي، وإرهاصات ذلك بدأت في تسعينيات القرن الماضي، بعد حدوث الأزمات الاقتصادية في العالم وحدوث الخلل في التوازن، وأن عصر القطب الواحد بعد أحداث أيلول انتهى، والثقافة الغربية تصدعت، ولم يعد بمقدورها أن تفرض هيمنتها الفكرية والاقتصادية كما في السابق، وإن أهم سلاح هو إنتاج عقل سليم يعي هذه المرحلة. فالإنسان المميز يجب أن يتحلى بالمعرفة والعمل والمرونة، وفي سبيل مصلحته يجب تسخير الإمكانيات ومن بينها السينما مثلا، فهي تلعب دورا كبيرا في نقل الأفكار من المجرد إلى الملموس، يجب الاستفادة منها بطريقة مثلى، والتخلص من الحركات التي تستغل وتستثمر الدين كمطية للوصول لمصالحها، ثم ينتقل إلى المستقبل عبر فصل سماه "منظور المستقبل ونموذج المعية" يبين فيه صعوبة مواجهة الدول بمفردها هذا الغزو الامبريالي والهيمنة الرأسمالية الكبيرة، لابد من مفهوم العمل المشترك ومفهوم العمل (معا) للخلاص من هذه الهيمنة، وهذا يتطلب طرح نماذج "معية" ومن هنا تنبع أهمية التعارف على بعضنا البعض وضرورته ، فكرا وثقافة، وتاريخا، ولغة، ثم المناقشة معا لتوليد حلول ملموسة قابلة للتطبيق.
في النهاية، نتمنى صدور الترجمة العربية للكتاب في القريب العاجل، فثمة أفكار كثيرة لا يمكن التوسع بها في مقال مختصر.
.....................................................................................................
كتاب: مستقبل الإنسان والمجتمع المدني
تأليف: تورغاي آلديمر
صادر عن دار تيرا للنشر عام 2020
علاء الدين حسو
كاتب وإعلامي سوري