الإنسان بين السّلاح والعلم


 

خلَّفتِ الحربُ الأهلية والصراع على السلطة بين (الهوتو) الذين يشكلون حوالي 80 % وبين (التوتسي) الذين يشكلون حوالي 15% من مجموع السكان، مليون قتيل و250 ألف حالة اغتصاب حتى قال مسؤول في الأمم المتحدة إن هذه الحرب لايمكن أن تنتهي لبشاعة مجازرها.. 

حدث هذا في بداية التسيعينات في (راوندا) أو كما تسمى اليوم (معجزة إفريقيا) ، وفي عام 2000م وصل (بول كاغامي) للحكم بعد إجراء انتخابات ولقِّبَ بالرجل الحديدي، استلم كاغامي (بقايا دولة) حيث الحرب التي خلفت أحقاداً طائفية وعرقية، إضافة لانعدام مصادر الطاقة وغياب المعابر البحرية فهي بلاد لاتطلّ على بحار، هذا بالإضافة لانتشار الفقر والجهل والأوبئة.. 

بدأ (كاغامي) بقوله المشهور (سنمسح دموعنا بيد وسنبني باليد الأخرى) وحشد الخبرات والعقول والكفاءات لإدارة البلاد، فقام بتشكيل 1200 محكمة في البلدات والقرى، لم تكن مهمتها تطبيق القانون والعقوبات إنما مهمتها نزع اعترافات المتورطين أمام محكمة علنية في القرية وإقرارهم بما فعلوا، باستثناء القادة والمحرضين فقد اقتادوهم لمحاكم الجنايات، ومن ثم وضع خطة سنوية لانتشال مليون فقير، وخصص 44% من ميزانية الدولة للتعليم والصحة فكانت النتيجة كالآتي: 

- (كيجالي) عاصمة راوندا أجمل مدينة في إفريقيا حسب تصنيف الأمم المتحدة لعام 2015م

- واردات السياحة 400 مليون دولار سنوياً في 2016م

- انخفاض نسبة الأمية إلى 25%

- أولى الدول الإفريقية جذباً لرجال الأعمال 

- المركز السابع عالمياً في سرعة النموّ الاقتصادي

-  إطلاق قمر صناعي في 2019م خاص بالاتصالات وتطوير نظم التعليم.

ولا يغيب عن عين المتبصر ما أرمي إليه من سرد سريع لتاريخ دولة إفريقية عاشت أحداثاً مشابهة لما عشناه في بلادنا، فالتاريخ ليس سرداً لأحداثِ بلادٍ وملوكٍ وأممٍ فقط، إنما هو دراسة لتجارب البشرية ومحاولة اكتساب تراكمات معرفية..

وبمحاولة بسيطة لمقارنة ما عاشته بلادنا مع ما عاشته (راوندا) على سبيل المثال، حيث من المعروف للجميع أن سوريا بلد تتكامل فيها كل المقومات اللازمة لبناء دولة عصرية حديثة بينما راوندا بلد ينقصها الكثير من تلك المقومات..

فأين تكمن المشكلة إذن؟!

وبالتأكيد فإن السرُّ يكمن بما قام به كاغامي عندما قام بأهمِّ عملٍ ألا وهو استقطاب الخبرات والعقول والكفاءات، ويبرز هنا السؤال الأهمّ هو لماذا في بلادنا نقصي العقول والخبرات عن مركز صنع القرار؟!.. 

إذن، لابدّ من تغييرٍ جذريٍّ في بنية الثقافة الشعبية في مجتمعنا ولا بدَّ من جعل الكوادر العلمية والمثقفة ذات أولوية في قيادة دفة البلاد لانتشالها من (بقايا دولة) لتصبح (معجزة العرب)، فكما قلنا لدينا في بلادنا الموارد اللازمة من موارد طبيعية وثروات باطنية وبشرية لنهضة كبرى، ولكن لدينا ثقافة مشوهة هي عبارة عن اختلاطات غربية وشرقية غير مكتملة، فالمادية الغربية غزت عقولنا رغم تصنيفنا كشعوب روحانية شرقية، والمجتمعات العربية بشكل عام هي مجتمعات تشوّهت فيها القيمة الاجتماعية للفرد فلم يعد (إمام المسجد و معلم المدرسة هما وجهاء القرية) كما كان في عهود سابقة بل أصبحت القيمة للمال والسلاح لأن الفئة الحاكمة هي فئة السلاح والمال، هذه السلطة وخلال عقود فرضت ذهنية القوَّة والثروة على شعوبها، فدولة مثل سوريا محكومة من فئة لا تقيم للعلم وزناً ولم تبنِ فيها سوى أربع جامعات وبالمقابل بنت آلاف الفروع الأمنية، وأثرت هذه البنية التحتية على البنية الفوقية في المجتمع حيث نرى أن عنصر أمن وعلى مرآى الجميع يستطيع إهانة رئيس الجامعة واعتقاله من داخل الحرم الجامعي، هذه الممارسات وعبر عقود رسَّخت قيمة اجتماعية مشوهة في عقول الأجيال حيث أن السلاح والمال هما أصحاب القيمة العظمى، حتى أن هذه الثقافة انسحبت على المجالات التعليمية، فنلاحظ في مدارسنا إعطاء القيمة للفروع العلمية على الفروع الأدبية ليس لشيء إنما لأنها تحقق مردود مادي أفضل، فالطبيب ذو قيمة أكبر من المعلم لأن دخله اليومي يعادل دخل المعلم الشهري، ونرى القاضي ذا قيمة أكبر من المحامي مع أنهما تخرجا من نفس الكلية ولكن القاضي يملك السلطة..

ومن هنا ومن حيث أن التشويه الثقافي للقيمة الاجتماعية قد شوَّه بلادنا، فلابد لنا من مراجعة بعض المفاهيم المدمِّرة، فلننظر إلى ما قاله (لي كوان يو) مؤسس سنغافورة، وكيف حوَّل بلاد المستنقعات والبعوض إلى أيقونة الحضارة على مستوى العالم حيث قال: (الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت به عندما استلمت الحكم في دولة فقيرة جداً، اهتممت بالاقتصاد أكثر من السياسة وبالتعليم أكثر من نظام الحكم )..

إن المشكلة الكبرى التي نعاني منها أننا- وبعد ثورة قدَّمنا فيها مليون شهيد للتخلص من عقلية سطوة السلاح والمال على الإنسان- لازلنا نحمل نفس الثقافة السابقة، فالأَولى بنا القيام بثورة على ثقافة السلطة السابقة وليس على السلطة ذاتها وحسب، ولا يكون ذلك إلا بالتعليم وإعطائه الأولوية بقيمنا الحياتية...

وفي الخلاصة لنتأمل قول المعلم الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم (من تواضع لغنيّ لغناه ذهب ثلثا دينه)، لاحظوا كلمة (لغناه) التي حدَّدت القيمة المشوهة لمعنى التواضع، نعم هذه هي ثقافة الإسلام، من تعظيم العلماء وتنصيبهم المراكز العليا، وما أجمل قول سفيان الثوري الذي يلخص منهج الإسلام في بناء الحضارات (مَنْ أرادَ الدنيا فعليهِ بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ومن أرادهما معا فعليه بالعلم أيضاً).. 

 

 

محمّد ياسين 

كاتب سوري

 

Whatsapp