أضغاث أحلام


 

عند باب الحافلة المكتظة بالركاب بيوم أثقله القيظ في أتون الصيف تقدم كلاهما بعد سماع زمور يجمع المسافرين الذين لا يبتعدون عنها كثيراً كي لا تفوتهم وتمضي، وإنذار بالسرعة من معاون السائق نظراً للتأخير الذي سببه عطل طفيف بمحركها.

كانت ترتدي بنطالها الجينز الأبيض وقميص قطني مقطع لمكعبات ملونة يغطي أردافها، تعقص شعرها بملقط فيما خصلاتها القصيرة المتناثرة حول وجهها الجميل بشكل عشوائي قد انفلتت من تحت نظارتها الشمسية المثبتة بأعلى رأسها تحمل حقيبتها بخفة وتنتعل حذاءً رياضياً أسوداً.

  • بل تفضل أنت الأول

  • أبداً ...الأفضلية للسيدات 

صعدت برشاقة لافتة واتجهت نحو المقعد رقم ١٢، صعد خلفها إلى الحافلة وظل يتلفت باحثاً عن مقعده وهو يعيد قراءة رقمه بالبطاقة مرات. 

جلس بمقعد رقم ١١ مبتسماً تزقزق عصافير قلبه طرباً، أظهر لطفه وذوقه يسألها إن كانت ستختار الجلوس من جهة النافذة، ابتسمت بلطف وبقيت بمكانها، جلس بقربها واعتدل بجلسته، انشغلت عنه بكتاب بين يديها وهي تلملم أطرافها بعيداً عنه، انحصرت أفكاره تحتفي بقربها. 

فاحت رائحة عطرها تداعب حواسه وذراعها يكاد يلتصق به كلما تململت فيخطف قلبه، تمنى لو أنه يحادثها، يتعرف على نبرة صوتها، ضحكتها، اسمها، ومن أي بلد هي؟

 أبحر بخياله يرسم سيناريوهات لعلاقة قد تبدأ حالا، أغمض عينيه واستسلم لخياله ولنوارس أسئلة ما فتأت تحوم حول عش قلبه المسكين، هل وجهتنا هي ذاتها؟!، هل ستمضي بمنتصف المسافة وتغادر مقعدها وتتركني وحيداً؟!، هل أزعجها إن أشعلت لفافة تبغ وهي على مقربة مني؟!، هل أبدأ بالحديث أنا أم أرجئ الحديث لتبدأ هي أولا؟، ان جازفت بمحادثتها أي حديث سأختار؟، هل أخبرها أن الطريق ممل أم أن السفر سيبدو جميلا برفقة امرأة مثلها فالنساء يلفتهن الرجل الشجاع الذي يقتحم خصوصيتهن بلطف؟، أتراها تفكر بي مثلما أفكر بها؟

التفت نحوها برأسه وابتسم واستأذنها بفتح النافذة قليلا، مدت يدها وتسمر للحظة بأصابعها الطويلة وكفها الغضة وبشرتها البيضاء الندية وطلاء اضافرها المشمشي الفاتح، ود لو يتناول يدها ويلثمها فالنساء يستهويهن لثم اليد كثيراً. 

عادت إلى كتابها وعاد إلى واحة أحلامه التي تنهشه بمخالب الأسئلة والأفكار، أأمل أن يتقرب منها ويدعوها لفنجان قهوة عند أول استراحة تتوقف الحافلة بها على الطريق، سيخبرها عن اسمه وأنه كاتب وروائي وسيقدم لها روايته الأخيرة بعد أن يمهرها بإهداء لطيف، انشغل بأفكاره بأمر الإهداء ماذا سيكتب لها وبأي العبارات سيخاطبها، ربة الحضور الأنيق، أم سيدة الدهشة؟، أم سيدة البهجة؟،أم يكتب مثلا أيتها المرأة المتألقة والجميلة والبهية والندية؟، أم يختصر كل هذا ويكتب إلى سيدة الجمال. 

ينهي إهداءه ويسألها عن حسن اختياره لعنوانها ويحدثها عن شغفه بالكتابة، ويهمس لها بأنها ستكون يوماً بطلة لأحدى رواياته القادمة والتي سيكون بدوره البطل الوحيد لتلك الرواية يرتشفان قهوتهما ويتبادلان أرقام هواتفهما وحديثهما المشوق ويقطعان عهداً على التواصل دوماً. 

لم تتوقف الحافلة عند أي استراحة بهدف الوصول بالوقت المحدد، أغضبه بقرار واعتذار لطيف، أغضبه ذلك جداً وحطم احلامه التي مازالت أفكاره تلتف بتلابيبها بعزيمة لا تستكين. 

أغمض عيناه مجدداً واستسلم لما تبقى من أحلام فيما أعلن المعاون لحظة الوصول وهنأ المسافرين بوصولهم بالسلامة. 

تقدمها لعله يعرض عليها خدماته ويقوم بتوصيلها لبيتها، إلا أن بعض الأصوات القادمة نحوها بفرح أيقظه وأعاده لنفسه. 

ظل يراقبها مبتسماً وهي تدنو من صغارها المتهافتين للقائها، تبتسم لهم وتقبلهم بشوق، وتشتم رائحتهم بفرط أمومتها،  تحادثهم وتحملهم بين أحضانها واحداً تلو الآخر، ودعها بصمت ومضى لمصادفة جديدة من مصادفات الحياة.

 

 

إبتسام هلال

كاتبة سورية

Whatsapp