لم يأت تدخل المحتل الروسي بشكل مباشر ضد ثورتنا السورية وشعبنا السوري الثائر منذ خمس سنوات تلبية لرغبة أسدية وحسب، بل جاء بالأساس ضمن توافق دولي وفي الأخص منه التوافق الأميركي الروسي لكسر الحلقة السورية باعتبارها الأهم ضمن سلسلة حلقات الربيع الديمقراطي العربي، وهذا ما أكدته عقابيل ما بعد 2011 وقبل ذلك بعقود.
لم يغب عن بالنا كل الممارسات والخطط لمواجهة النهوض العربي منذ منتصف الخمسينات حتى هذه الأيام، وكلها تمت بمشاركة وترتيب إمبريالي مع روسيا ومن قبلها مع الاتحاد السوفياتي؛ كان قيام حلف بغداد وإسقاط الوحدة ودعم الانفصال وترتيبات هزيمة 1967 وتمرير جميع الهرطقات البعثأسدية وتزييف المقولات الكبرى بما في ذلك شعارات المقاومة وتحرير فلسطين، وما كانت لتُمرر شعبياً بدون التضليل السوفياتي ثم الروسي المتشارك مع البروباغندا الأميركية الصهيونية المُشرفة على تلك الموجات المتتالية تاريخياً من الصد بوجه النهوض العربي لإفقاد ثقة شعوبنا بالتنمية المستقلة كأداة من أدوات النهضة العربية الشاملة، وما كان لكل ذلك أن يفعل فعله بدون العمالة والخيانة الخليجية برئاسة المملكة السعودية التي تولت العمل على إحباط أي مبادرة عربية جادة وعلى طول الخط منذ تأسيسها منذ حوالي ثلاث قرون، وها نحن اليوم نشاهد ونعيش تتويجاً لتلك النكبات التي قادت سردياتها جميعاً مدعومة من الحلف الامبريالي الصهيوني المشارك لها والراعي لنهجها وتضليلها الإعلامي والإرهابي الهائل.
إن جميع المعارك التي حصلت على الأرض العربية بعد الحرب العالمية الثانية وصولاً لانطلاق الربيع العربي، كانت بغياب وتغييب لدور شعوبنا العربية، بل إن أكثرها كان ضد إرادة هذه الشعوب وذلك بفعل الضخ الإعلامي المعادي لطموحاتها وآمالها الكبرى. فمنذ 1948 وحتى الآن كان الشعب بعيداً كل البعد عن المشاركة وأخذ رأيه بما هو مطلوب للتقدم والنهضة، عدا ومضات نهوض كانت بالأصل هي الدريئة التي صوب عليها الحلف الصهيوني الإمبريالي، المُدعم بطواغيت وحكام عرب، كم تعب نفس الحلف على توظيفه وإيصاله لسدة الحكم والتحكم بأقطارنا العربية، وتكريس الاستبداد والفساد والنهب الذي جاء الربيع الديمقراطي العربي ليكنسه كأول مرة يقود الشعب العربي معركته بنفسه بعد 2011.
بجردة بسيطة نجد أن أكثرية شعوب الأمة العربية خرجت لتحقيق نفس الأهداف الواحدة والموحدة لتلكم الجموع؛ فمن تونس إلى مصر فاليمن والبحرين وليبيا ثم سورية والعراق والسودان والجزائر ولبنان، إنه ما يساوي أكثر من 300 مليون عربي حر ثار ورفع نفس الشعارات والأهداف، فمنها من حقق جزئياً بعضاً منها والأغلبية لم تحقق ما تصبو إليه؛ لماذا؟ ومن هي الجهات التي حالت دون تحقيق أهدافها؟ وكيف تمت مواجهة هذه المعركة الثورية العربية الكبرى بمواجهة الاستبداد والإمبريالية وأدواتهما معاً؟
لم يكن الدور الروسي إلا الصفعة الختامية لشعوبنا نتيجة لفشل الإدارة الأميركية بالسيطرة على شعوب الربيع العربي ولمّا تزل، ذلك أن سكوت الحكومات الغربية على فاشية الأنظمة العربية وجرائمها، والكم الهائل من الفظائع التي ارتكبت، يُظهر دورهم الحقيقي ودعمهم لارتكاب تلك المجازر، وتوزيع الأدوار فيما بينهم وصولاً لدعم التدخل الروسي بغطاء عربي خليجي لا تخطئه العين بعد فشل ميليشيا الطوائف العربجية والإيرانية، ومسحة السلفية والظلامية التي سلطتها وأوردتها ومولتها دول الخليج بإشراف من المملكة إياها، كل ذلك كي لا يصل الربيع لديارهم بعد اجتياحه لكل النجوع والمواقع العربية المحاذية لبلادهم المقهورة والمستلبة والمنهوبة .
كأن العالم- غربه وشرقه- أراد أن يلقن جميع الشعوب درساً قاسياً بعدم مقاربة ما جرى وتم على الأرض العربية بهدف استمرار استنزاف مواردها، وفي النهاية عدم السيطرة الشعبية على القرار والمستقبل العربي حرصاً على أمن ربيبة هذا العالم ألا وهي الكيان الصهيوني، ولنا فيما جرى في الأسابيع الأخيرة من تتويج لتطبيع تلك الحكومات معه دليلاً على أنهم كانوا في بؤرة التآمر على شعوبنا ومنطقتنا العربية كلها وبدعم روسي ممول خليجياً لقتل تلكم الإرادة لحركة الثورة وعدم انتصار شعوبنا بمعاركها في سبيل الحرية والاستقلال.
إن شعبنا السوري لم ينس زيارة لافروف المشؤومة لدمشق بعد الأيام الأولى للثورة وأدواره اللاحقة كلها بدعم عصابة الحكم والإجرام والقتل وبجميع المحافل الدولية، وكذلك زيارات السفير الأميركي للثوار على حد زعمه، وما كانت تلك الزيارات إلا لسبر أغوار الحراك السلمي وكيفية التعامل معه لإجهاضه وتثبيت نظام العصابة الطائفية، الذي لم يكن يوماً إلا لخدمتهم وتمرير مخططاتهم وتآمرهم على الأمة وشعوبها وبرفع نفس أهداف تلك الشعوب وهو ما توافق عليه معهم تاريخياً كي يتمكن الاستبداد والطغيان أكثر ويُمرر نهبهم وخططهم دون عوائق.
ونسطر هنا عدة أمثلة شديدة الوضوح على البروباغندا الغربية ومحاباتها للعصابات كلها خاصة العصابات الصهيونية والإيرانية وأدواتهم في منطقتنا العربية، مثال تدمير الباخرة العسكرية الأمريكية ’’ليبرتي‘‘ وقتل أغلب من فيها بضربة جوية من قبل جيش الاحتلال الصهيوني إبان حرب 1967، وفي الوقت الذي تستكلب أميركا بمواجهة من يبيد ويقتل جنودها فقد صمتت بل أصيبت بالخرس ولازالت بتعاطيها مع هذه المسألة، علماً أن أسطولها السادس يمخر عباب البحر المتوسط وتحت عدسات الأقمار الصناعية الغربية والشرقية، وكانت الباخرة حينها قبالة الشواطئ الفلسطينية المصرية ويعرفها الصهاينة جيداً؛ إنه الشكل المطابق للمثال الثاني وهو دور عصابات المؤتمر الصهيوني باستفزاز النازية بعد تحالفهم معها ليبرروا سردية ظُـلامة كاذبة وتواطؤ مكشوف مع الاحتلال البريطاني لفلسطين بهدف سلخها وترهيب أهلها بالقتل والمجازر المحمية بريطانياً وطرد ما أمكن منهم، وهو نفس التطابق مع الدور البريطاني وعصابات السافاك زمن الشاه باحتلال وسلخ الأحواز العربية ولازال التواطؤ الدولي مع ملالي طهران بمواجهة أهلنا العرب في الأحواز ومواجهة ثوار الشعوب الإيرانية جمعاء بوجه عصابات ما يسمى الحرس الثوري وما هو بثوري بل عصابات إرهابية كبنادق للإيجار تعمل ضمن نفس التوجه الصهيوأميركي والإمبريالي الدولي؛ كل ذلك يتطابق مع ممارسات أمريكية وروسية تاريخية وراهنة ضد شعوبهم وشعوب العالم أجمع .
إذاً من الواجب ألا نستغرب مجريات ما بعد 2011 نحو ثوراتنا وشعوبنا، وكذلك ألا ننخدع بالدور الروسي وبأدوار أخرى مكملة له بمواجهة كل من يقف مع شعوبنا، وهنا يجب أن نؤكد على ضرورة اليقظة مما يُرتب روسياً وأميركياً من مساومات لتركيا في سورية والمتوسط ككل، باعتبار أن تركيا تشكل هذه الأيام عمقاً لشعوبنا وهي تنشد التحرر والانعتاق من الاستبداد، فأدوارهم جميعاً ضدها وضدنا عبر التاريخ القريب والبعيد كاشفة لعدائهم لكل شعوب المنطقة حين تنشد التنمية المستقلة والديمقراطية والحرية السياسية، ولا يشكل حلف الأطلسي الذي تنضوي تركيا ضمنه أي ضمانة من الغدر الأميركي والروسي والغربي عموماً.
شعوب المنطقة كلها مستهدفة من نفس الجهات الإمبريالية- الغربية والشرقية- لقطع طريق تحررها ونهوضها وتقدمها، الأمر الذي يتطلب موقف مبدئي واستراتيجي مشترك لجميع طلائع شعوبنا للنضال معاً والتخلص من الاستبداد وتحقيق شعارات الثورة والولوج لما بعد جائحة الاستعمار الإمبريالي الجديد المواكبة لجائحة الإجرام الأسدي وكورونا معاً.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري