لم تكن مجرد طائرة تقلّ الخميني في رحلة العودة من باريس إلى طهران العام 1979؛ بل كانت تقلّ أيضاً ذلك المخطط الضخم لشرق أوسط جديد، يهدف بشكل أساسي إلى ترسيخ وجود الدولة العبرية بالمنطقة، وتمكينها من السيطرة المطلقة عليها وعلى مقدراتها:
- جغرافيّاً: لتجسيد شعار إسرائيل الكبرى (من النيل إلى الفرات)، على أرض
الواقع.
- واقتصادياً: من خلال الحلم الإسرائيلي بالمشاريع والاستثمارات الضخمة على فوهات الآبار النفطية على وجه الخصوص.
- وثقافياً: وهو الأهم، بغرس مفاهيم جديدة في العقل العربي، وخاصة بجيل أو أجيال الشباب للهيمنة عليه، وتسطيحه وتهيئته للقبول بهذا الوجود الغريب في وطنه، وإزالة الحواجز النفسية التي كانت تمنعه من قبوله أو التطبيع معه تحت أي ظرف من الظروف.
حاولت إسرائيل هذا من قبل وباءت محاولاتها بالفشل مع الشعب المصري أوّلاً بعد كامب ديفيد، ثمّ مع الشعب الأردني عبر اتفاقية وادي عربة الشهيرة، بل حتى مع الشعب الفلسطيني من خلال اتفاقيّتي أوسلو الأولى والثانية، وكانت تعلم أن هذه الاتفاقيات مع الحاكم مهددة بالزوال بزوال الحاكم الذي وقّع عليها يوماً.
لابد إذاً من تحوّل كبير باستراتيجيّتها، وبالنظرة العامة للوضع بالشرق الأوسط من جديد، وحدوث مثل هذا التحوّل لا يتمّ بسهولة، بل لابد من صدمة هائلة تجعله مقبولاً، أو مفروضاً كحلّ لا بديل له، وقد تطلب هذا منها العمل على محورين اثنين:
أولهما: دعم أنظمة الحكم الاستبدادية، وتشجيعها في ممارساتها القمعية لشعوبها، لكي يتمكن الإنسان العربي من مقارنتها (بواحة الديمقراطية إسرائيل) كما يحلو لها أن تطلق على نفسها.
ثانيهما: خلق نظام موازٍ لها بالمنطقة وهو النظام الإيراني، وإطلاق يده لاجتياح دول المنطقة وتدميرها والتنكيل بشعوبها، ليظهر للجميع في النهاية أن إيران بالمقارنة مع إسرائيل، ماهي إلّا سيلُ همجيةٍ عرمٌ اجتاح دولهم، واحتلّ حتى الآن أربع عواصم عربية بشكل أو بآخر، وراح يشكل خطراً مرعباً يهدد بالتمدد واحتلال العواصم العربية الأخرى والخليجية منها بخاصة، كما مارست ميليشياته المشهورة جرائمها المروعة من قتل وتنكيل وتشريد وتجويع وقهر إلى آخر حلقات سلسلة همجيتها المعروفة، بالمقابل فإن (إسرائيل) ستقوم بالترويج لنفسها: - كدرع قويّة لحماية الأنظمة العربية من الاجتياح الإيراني كما حصل للدول العربية الأخرى. - وكمنفسة للديمقراطية. - وكحمامة للسلام في المنطقة رغم كل ممارساتها اللاإنسانية السابقة واللاحقة ضد فلسطين وشعبها.
وعليه فالمطلوب من الإنسان العربيّ المقارنة بين هذين المشهدين المرسومين بدقّة، في محاولة لمسح الصورة السيّئة لإسرائيل (المحتل الوحشي الذي احتل فلسطين وارتكب المجازر بحق أهلها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وطرد مليون إنسان من أرضه)، ورسم صورة جديدة عنه تمكنه من تحقيق هدفه العميق في الوصول إلى تطبيع علاقاته مع الشعوب بعدما نجحت في ذلك مع الحكام. ولهذا فقد توجّبت عليها المحافظة على الأنظمة القمعيّة بالمنطقة من جهة، وعلى النظام (الإيراني) من جهة أخرى. فإيران الجمهورية التي صنعت بالغرب، يجب أن تكون جاهزة ورهن الإشارة لتنفيذ الدور المحدد لها خطوة خطوة، وعلى الغرب أن يحافظ على وجودها، ومنع المساس بها. ولأجل هذا فقد سلّمتها أميركا مفاتيح العراق كاملة باحتلال غير معلن، رغم أنها لم تتمكن من احتلال شبر واحد من العراق في حرب السنوات الثماني الجهنمية معها. كما أن إسرائيل لم تفكر يوماً بقصف أي مفاعل نوويّ إيراني، بينما لم تنتظر، كما هو معروف، لحظة واحدة لتقصف مفاعل تموز النووي في العراق.
وفي الختام فإن إسرائيل الساعية اليوم للسلام مع الأنظمة العربيّة، لم تكن تهدف إلى السلام يوماً في كل مراحل وجودها على أرض فلسطين، بل كانت على العكس تماماً تقوّض أيّة محاولة حقيقيّة له، كما حصل حين رفضت المبادرة التي أطلقتها الجامعة العربية في مؤتمر القمة ببيروت 2002 والمعروفة بمبادرة الملك عبدالله؛ والتي كانت فرصة ثمينة لها لو أرادت السلام فعلاً، فقد عرضت هذه المبادرة على إسرائيل اعتراف الدول العربية (جميعها) بها، وتطبيع العلاقات معها مقابل إنشاء دولة فلسطينية على حدود 1967 والانسحاب من الجولان السوري المحتل، وعودة اللاجئين الفلسطينيين لبلدهم. وهذا يؤكد أنها، أي إسرائيل، لا تريد اتفاقاً مع العرب مجتمعين، بل تريد أن تفرض على كل دولة اتفاقاً منفرداً، تقبل من خلاله شروطها وإملاءاتها عليها، كما يتم عادةً في اتفاقات الأقوياء مع الضعفاء.
وصلت إسرائيل إلى بغيتها مجاناً دون أن تتنازل عن شيء، وإلى دفع العرب للهرولة باتجاهها طلباً للحماية من الفزاعة الإيرانية التي نصبوها لهم، فقامت باستقبالهم وتهدئة روعهم مما ينتابهم من خوف من البعبع الإيراني المحدق بهم. لقد اتضحت الحقيقة، وتبيّن للجميع أن دور إيران المسرحي في محاربة التطبيع بات مكشوفاً تماماً كدورها في قيادة محور المقاومة والممانعة ولعقود ...! وما على(إسرائيل) إلا أن تشكر الصديقة (إيران) على ما قدمته لها من خدمة لم تكن تحلم بها يوماً وعلى طبق من ماس، وبالمجان.
عصام حقي
كاتب سوري