الاحتلال الروسي خدمة لقطار التطبيع


 

وقفتُ (مطمّش) العينين أمام رئيس فرع الخطيب بدمشق بتاريخ 26/8/2017بعد مضي أحد عشر يوماً على اعتقالي في ذلك الفرع ذائع الصيت. سمعته يقرأ في ملفي وتاريخي بصوت أراده أن يكون مسموعاً، وحين انتهى قال لي:

" أنت كتبت عن الاحتلال الأميركي في الحسكة وهذا مفهوم، ولكنّك تحدثت أيضاً عن الاحتلال الروسي، وقد ساويت بينهما رغم أن الروسي جاء لمساعدتنا ضد الإرهابيين بعكس الأميركان "؟ قلت له وأنا أتوجه إلى الجهة التي افترضت أنه جالس وراء مكتبه يطالعني من قمة رأسي |إلى قدمي الحافيتين:

" هذا ليس كلامي بل كلام الروس أنفسهم، حين وافق مجلس الدوما على اعتبار القوات الروسية المتدخّلة في سورية بمثابة قوات احتلال ولا يخضع الجنود للمحاسبة لما يرتكبونه من أفعال بعد انتهاء مهمتهم، على غرار القوات الأميركية عندما غزت العراق 2003، ثم إن القوات السورية حين دخلت لبنان كقوّات ردع عربية في عام 1975، قالت إنها دخلت لمساعدة اللبنانيين بينما كان ينظر لها اللبنانيون على أنّها قوات احتلال ". طال الحديث قرابة الساعة كانت نتيجته أن وجدت نفسي أمثل أمام محكمة الإرهاب، بعد أقل من شهر.

اليوم وبعد مضي خمسة أعوام على أول ضربة جويّة روسية، هل تأكد رئيس الفرع من صحة كلامي وأن الروسي لم يأت من أجل الحرب على الإرهاب ولا لمساعدة النظام السوري، وإنّما ليبتلع سورية أو جزءاً منها مع الحفاظ على المنظومة الأسدية التي تؤمن له الغطاء السياسي فيما هو منهمك في الاستيلاء على المرافق الاستراتيجية من خلال عقود واتفاقيات طويلة الأجل تصل إلى خمسين عاماً وأزيد.

لن أتحدث بتفاصيل تلك العقود التي باتت معلومة للجميع، بل أريد أن أسلّط الضوء على الأبعاد الحقيقية للاحتلال الروسي والتي بدأت تتكشف بعض جوانبها لتفسّر لنا العديد من المحطّات التي مرّت بها المنطقة خلال السنوات الخمس الأخيرة التي أنتجت تلك الجسارة الوقحة على القضيّة الفلسطينية ودماء السوريين.

منذ أن قدم ملك البحرين السيف الدمشقي هديّة "للفاتح" بوتين يوم الاثنين 8/2/2016في منتجع سوتشي، الذي أثار زوبعة من الانتقادات لذلك التصرّف المشين، والذي نمّ عن مدى استخذاء هؤلاء الحكام وهم يرون الطائرات الروسية تقصف المدن والمشافي والأسواق وتحصد آلاف الأرواح البريئة من السوريين، وبدل أن تصدر مواقف صارمة تجاه الروس واحتجاجات لما يرتكبه الجيش الروسي من جرائم ضد الإنسانية، نجدهم يتهافتون على المجرم بوتين لتقديم الهدايا وفروض الطاعة والولاء.

لقد فهم العالم أن جوهر القضية الفلسطينية لا يكمن في حدود فلسطين على الخارطة ولا في الشعب الفلسطيني وإنّما في المحيط الذي لا  يقبل أن يتنازل عن قضيته المركزية ولا يمكن للشعوب العربية أن تتخلى عن القدس والمسجد الأقصى، وهذا ما يجعل (إسرائيل) تعيش كابوساً دائماً من احتمال يقظة الشعوب والإطاحة بالحكومات العميلة، وقد ازداد شعورها بالخوف مع اندلاع الثورة السورية التي كادت أن تسقط نظام الأسد، فعمدت إلى أذرعها في المنطقة لكي تتدخل وتنقذ النظام ولكنّ إرادة التحرر لدى الشعب السوري كانت أقوى من كلّ الميليشيات التي جلبتها إلى الساحة السورية على اختلاف راياتها، مما اضطرّها للاستنجاد بروسيا التي جاءت بضوء أخضر يكاد يكون أممياً، فسمحت لقواتها أن تستخدم جميع أنواع الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً وهي مطمئنة بأنّها تؤدي مهمتها بدون محاسبة أو احتجاج لطالما الراعي الصهيوني راضياً عن ذلك.

اليوم ومع اكتمال السنوات الخمس على التدخّل الروسي في قتل الشعب السوري، يتوّج رئيس الوزراء الإسرائيلي انتصاره على الربيع العربي في واشنطن باتفاق التطبيع مع كل من الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين بحضور عراب صفقة القرن ترامب، لتبدأ مع ذلك الاتفاق سلسلة قادمة من الخطوات المماثلة قد تشمل معظم دول الخليج العربي وربما تلحقها باقي دول المغرب العربي، بحجة انهاء الصراع العربي الإسرائيلي ومواجهة المدّ الصفوي وخطره القادم من إيران، ولكنّ الحقيقة أنّ الهلال الشيعي الذي كانوا يحذروننا منه قد أصبح هلالاً صفيونياً بمباركة مشايخ العار وملوك الطوائف، والفضل كلّه يعود لآلة الحرب الروسية التي لم تبخل بكلّ ما هو جديد ومبتكر في ترسانتها العسكرية الضخمة لتجعل من الأرض السورية ساحة تجارب لقتل ما يمكنها من الشعب السوري الأعزل. ولكنّ التاريخ قد علّمنا أنّ المحتل مهما بلغ من قوة فهو زائل، وأن إرادة الشعوب لا تقهر، وأن الخونة والعملاء والمتخاذلين إلى مزابل التاريخ لا محالة.

 

ياسر الحسيني  

كاتب وإعلامي سوري

Whatsapp