ورطة روسيا السورية


 

مضى على التدخل الروسي العسكري المباشر في سورية ضد الفصائل المسلحة المعارضة حوالي الخمس سنوات، ومن غير الواضح بعد كم من الوقت تحتاج هذه القوة العسكرية (التي كانت في وقت ما تدعى بالقوة العظمى الثانية عالمياً) لإنهاء مهمتها التي ادعت بداية أنها لن تستغرق أكثر من ثلاثة أشهر.

يمكن فهم أن الروس بتدخلهم العسكري في سورية خريف العام 2015 كانت لديهم قناعة بإمكانيتهم التصرّف في المنطقة، بوصفهم دولة عظمى تفرض أجندتها منفردة. ولكننا نعتقد بأن الأميركان ومنذ بيان جنيف (1) في 2012، كانت لديهم الرغبة في التمدد الروسي في سورية، من اتفاقات خفض التصعيد والمصالحة مع تركيا، وعودة مناطق واسعة إلى سيطرة النظام وداعميه، كما كان اتفاق المصالحة في الجنوب برعاية أميركية، على أن تبقى أميركا ممسكة بمستقبل الحل السياسي في سورية من خلال ثقل الحضور في مناطق تضمّ معظم مصادر الطاقة السورية، وممارسة دورٍ معطّل للحل الروسي القائم على البدء بإعادة الإعمار وعودة اللاجئين، وأن تكون التغييرات السياسية شكلية. وهذا ما يفسره تصريح جيمس جيفري، الذي قال: «وظيفتي هي خلق مستنقع للروس هنا».

ومن هنا كانت عملية عودة اللاجئين وإعادة بناء اقتصاد سورية من بين المهام ذات الأولوية بالنسبة لروسيا، وفي المقابل كانت العقوبات الغربية وخاصة قانون قيصر تجعل من المستحيل على روسيا حتى الآن إمتلاك استراتيجية موحدة لإعادة البناء بفرص مالية واقتصادية واستثمارية محدودة. بالرغم من المحاولات العديدة لتحويل تركيز السياسة الأوروبية تجاه سورية من «إزالة الأسد بأي ثمن» إلى المساعدة في تلبية الاحتياجات الإنسانية للسوريين، بما في ذلك المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في دمشق، وتنمية المجتمع المدني في سورية. مع إدراك روسيا أنها غير قادرة وإيران، على تحمل تكلفة إعادة إعمار، وتعلم أن إطلاق هذه العملية بحاجة إلى الأموال الأوروبية والخليجية، وحتى ذلك الوقت تركز روسيا، على دفع النظام لإنقاذ ذاته من الانهيار الاقتصادي.

وفي سياق تحقيق الطموح الروسي بإيجاد نفوذ في منطقة البحر المتوسط، وهو ما يستلزم التنسيق مع مختلف الدول الفاعلة في هذه المنطقة، يحاول الروس زيادة أوراقهم الرابحة بتثبيت شراكتهم مع تركيا من خلال صفقة محتملة حول إدلب بصيغة تتوافق مع انسحاب القوات التركية من المناطق الواقعة جنوب الطريق السريع M4 في إدلب، مقابل إعادة منبج وتل رفعت. 

في المسعى الروسي لتثبيت ما تحقق من سيطرة روسية على الموارد الإقتصادية السورية يمكن فهم ثبات الموقف الروسي المرتكز حتى اللحظة على ضمان إستمرارية الشريحة الحاكمة في سورية لحين تثبيت مصالحها المستقبلية من خلال اتفاق دولي مع الأميركان. من هنا تظهر المخاوف الروسية من احتمالية نجاح النظام السوري بتحقيق تحوّل في علاقته مع دول أوروبية، تعطيه حيزاً جديداً للمناورة، كتلك التي اعتاد عليها بين روسيا وإيران طوال السنوات الأخيرة، بعد أنباء متناقلة تشير إلى تحول سياسي فرنسي نحو دول المنطقة، يقوده الرئيس إيمانويل ماكرون، انطلاقاً من لبنان. ارتفاع منسوب هذه المخاوف، تعبر عنه الانتقادات التي تُنشر في الصحف الروسية لأداء رأس النظام السوري، وتحديداً محاولته مغازلة حكومات خليجية وأوروبية، لأهداف اقتصادية، متعلقة بإعادة الإعمار.

لذلك فإن ماسعت إليه موسكو من إعادة تأهيل نظام الأسد كرمزٍ للاستقرار في المنطقة قادر على جذب الإسثمارات لصالح الشركات الروسية في إطار إعادة الإعمار، لن يكون ممكناً. من هنا كانت الهجمة الإعلامية التي إستهدفت الأسد، وتصويره على أنه فاسد بشكل ميؤوس منه وغير صالح للحكم، مشيرة إلى أن الوقت قد حان لتغييره بزعيم جديد. وأن روسيا تعتقد بأنه لم يعد قادراً على قيادة البلاد بعد الآن، وأنه يجر موسكو نحو السيناريو الأفغاني. وبالتوازي كان سعي موسكو لفتح خطوط التواصل مع رموز المعارضة، كما دعت الخارجية الروسية معارضين إلى موسكو للتباحث في سبل إطلاق المسار السياسي، وتجري اتصالات مع آخرين يمثلون بعض أطياف المعارضة وتدعو مَن ليسوا متشدّدين إلى العودة إلى سورية مع الاستعداد لحماية وجودهم. 

وبالتوازي كانت عملية تثبيت السيطرة الإقتصادية على موارد الطاقة السورية من خلال حزمة مشاريع تعتبر تعديلاً لمذكرة تفاهم وقعتها سورية مع روسيا في منتصف تشرين الثاني 2017 ولا تشمل على 40 مشروع طاقة على الأقل، في تأكيد على أن روسيا هي البلد الوحيد الذي سيلعب دوراً في إعادة بناء منشآت الطاقة السورية.

وإن كان لنا أن نتساءل من الذي يمنع الكرملين من إنجاز النصر النهائي في سورية، هنا يمكن أن نعي أن الروس يدركون أنه طالما بقيت أسرة الأسد في السلطة، تصبح مستحيلة أية إصلاحات جدية. وأهم ما في الأمر، أن روسيا، وخلال السنوات التي انقضت على انخراطها في العملية العسكرية، قد عجزت عن مأسسة وجودها في سورية، إذ عجزت عن إيجاد قوى مخلصة لها كلياً ولوبي سياسي مؤثر، يمكن لموسكو أن تستند إليه، وهي تدفع دمشق نحو هذه الخطوات أو تلك. 

مما ذكر أعلاه نستنتج أن عودة روسيا إلى الشرق الأوسط مع حملتها العسكرية، تهدد بأن تتحول بالنسبة لموسكو، إلى مأزق. حيث أن موسكو تشعر بالقلق من أن الانتصارات العسكرية التي حقّقتها في سورية وتغيير موازين القوى الجيوسياسية في المنطقة، ونجاحها في استعادة الدور الروسي الشرق الأوسطي، لم يُترجم بحلّ سياسي يكرّس عودة نفوذها باعتراف أميركي ودولي رسمي. كما أن تأخير الحلّ السياسي يتيح لإيران مزيداً من الوقت كي تطوّر نفوذها على الأرض السورية.

لذلك نجد العديد من التسريبات من مصادر روسية توحي بأن استقالة الرئيس السوري المحتملة ليست مستغربة، فهو بتحليلها ومنذ مطلع "الربيع العربي" في العام 2011 لم يكن شخصية مريحة، لأنه لا يتقبل المعارضة، وهو ليس مقبولاً من الولايات المتحدة ومن حكام الخليج. والحديث هنا لا يتناول الأسد كشخصية سياسية، بل يتناوله كرمز للحكم، كرمز لذلك النظام الذي قامت الإنتفاضة ضده، وبالتالي تعتبر أن استقالة الأسد ستكون منطقية، لولا غياب الشخصية التي تحل مكانه. 

إلا أن الضغط الأميركي والغربي للمزيد من تعميق الأزمة الروسية في سورية من خلال منع التطبيع السياسي مع دمشق ومنع المساهمة بإعمار سورية، واستمرار غارات الطيران الصهيوني على الأهداف الإيرانية في سورية، في إطار السعي إلى إرضاخ روسيا قبل الجلوس على طاولة التفاوض، قبل الانتخابات الرئاسية السورية منتصف العام المقبل، حسب اعتقاد غربي. وبين الرهانات الروسية والأميركية - الغربية، تتفاقم الأزمة الاقتصادية في سورية، في انتظار جلوس الطرفين إلى مائدة التفاوض بعد اختبارات مؤلمة على السوريين في مناطق النفوذ الثلاث. وفي انتظار ذلك نعتقد أن سورية لن ترى أي أمل من دون الشروع الفوري في عملية الانتقال السياسي، وكل ما هو دون ذلك، ليس سوى انتحار للسلطات القائمة وإطالة أمد معاناة السوريين.

د. م. محمد مروان الخطيب

كاتب وباحث سوري


 

Whatsapp