الكلمة


 

الكلمة لغة: هي اللّفظة الواحدة التي تؤدي معنًى وتتكون من حرف أو أكثر.

وهي نتاج خبرة الفرد وتربيته وثقافته، ومقياس رقي الشّعوب وتحضرهم، وهي صوت القلب والرّوح والعقل، ونواة التّواصل بين أفراد المجتمع الواحد الذي لم يعد محددًا بمساحة جغرافية معينة، وهي الأداة الوحيدة التي خصّ بها الله بني البشر، وهي البلسم الذي يُغني والتّرياق الذي يُشفي، وهي الوتر الذي يعزف عليه الموسيقيُّ بريشته، والألوان التي يوّشي بها الرّسام لوحته، والعبق الذي يكتب به الشّاعر قصيدته، والقلم الذي ينثر به الكاتب روايته.

يقول عبد الرحمن الشّرقاوي:" مفتاح الجنة في كلمة ودخول النّار في كلمة وقضاء الله هو الكلمة".

فما الفرق ما بين الإيمان والكفر سوى كلمة، وما بين الزّواج والطّلاق إلا كلمة، وما بين العبودية والعتاق غير كلمة، وما بين الصّداقة والعداء إلا كلمة، وما بين جبر الخواطر وكسرها سوى كلمة، وما بين الحب والكره غير كلمة، وما بين الصّدق والنّفاق إلا كلمة، وما بين كشف الحقيقة وإخفائها سوى كلمة، وهي الحد الفاصل بين الميثاق والوعد وبين الرّياء ونقض العهد، فما الفتنة إلا كلمة، وما الكتب السّماوية إلا رسالة الله في كلمة. 

والكلمة هي الغيث الذي يروي القلوب الظّمأى، وهي المفتاح للخير المغلاق للشّر، وهي الحب، هي الخير، هي المساندة، هي الصّدق والصّداقة فكم من كلمة كانت بداية لقصة حب خطها القدر في لوحه، وكم من كلمة حطمت جدار العداء ومسحت غبار الهم وأزاحت رياح الكره وصدت عواصف الحقد. 

يقول سبحانه تعالى:" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"

وكم من بنت شفة كانت أداةً هادمةً وخنجرًا لا يُرى يقتل الأرواح ويهدمها كوحش مفترسٍ فلا تملك بعدها الرّوح سبيلا للعيش ولا طريقًا للنجاة، ولا وسيلة للتّرميم ولو فاقت حروفه أبجديات الكون فملايين المفردات لا يمكنها ترميم ما تهدمه كلمة. 

يقول جبران خليل جبران: وقاتل النّفس مقتول بفعلته**وقاتل الرّوح لا تدري به البشر.

فمن الكلام ما هو أحرّ من الجمر وأمرّ من الصبر وأقسى من الحجر وأوجع من وخز الإبر، وبعضه أرق من النّسيم وأعبق من الياسمين وأحلى من الشّهد وأنقى من الفجر وأجمل من الرّبيع.

وتبقى الكلمة رهينة صاحبها إلى أن تخرج مِنْ فيه فيصبح رهينًا لها، وهي أداة التّعبير عن مشاعر الحب والكره والفرح والغضب والحزن لذا كان الصّمت لغة راقية أمام فقراء الأدب، وكان كاظم الغيظ محببًا عند الخالق، وكان التحكم باللّغة والسّلوك معيار قوة بني البشر بدليل قوله(ص):" ليس الشّديد بالصُّرَعة، إنما الشّديد الذي يملك نفسه عند الغضب" وقد جاء في الأثر: "كل إناء ينضح بما فيه" فلغة المرء صورة عن أخلاقه، كما ورد عن سقراط بأن رجلًا وسيمًا أنيقًا وقف أمامه متباهيًا مفاخًرا بلباسه ووسامته فقال له سقراط: "تكلم حتى أراك"

فما الإنسان إلا كلمة تعبر عن شخصيته وطريقة تفكيره لذا ارتقوا بكلماتكم ولا تكونوا سببًا في دموع إنسان، وابدؤوا بلغة الحب لتعود لكم كما يعود صدى الصّوت، فقد ورد عن سيدنا لقمان أنه قال: " القلوب مزارع فازرع فيها الكلمة الطّيبة فإن لم تنبت كلها ينبت بعضها" فالكلمة الطّيبة صدقة تبعث في النفس أمانًا وسلامًا داخليًّا لا مثيل له لأن الله فطرنا على الخير والجمال لذا درّبوا ألسنتكم وأرواحكم، وتصالحوا مع أنفسكم لتكونوا أقرب إلى الخلق والخالق فقد ذكر الله في بيانه:" وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"

فالكلمة سهم خارق إما أن يصيب القلب ليرمم جراحه ويكون بلسما لأرواحنا المتعبة أو يخترقه فيدميه ويميته. لذا كانت "الكلمة نور وبعض الكلمات قبور". ولعلّ من أعظم الآفات في مجتمعنا أننا نظهر لغة الكره ونخفي لغة الحب، فلغة الغزل بين الزّوجين تكون خفية بينما تظهر لغة الجدل والنزاعات أمام الأولاد فكيف لطفل أن يتعلم لغة الحب في بيت يفتقد الكلمة الطّيبة، كما أن السّر والخفاء مكان أعظم قصص الحب خوفًا من سطوة المجتمع وقمع الأهل بينما الكره يطفو ويسود ويمتد إلى أجيال لا ذنب لها سوى أنها عاشت في بيوت تفتقد إلى لغة السّلام والوئام فأصبح البيت بالنسبة لهم مجرد جدران تجمع أناساً أقرباء دمٍ غرباء روح، بالإضافة إلى لغة الحرب والنّزاعات وطغيان لغة المصالح التي سادت الأرض فأصبح الإنسان يعيش في صحراء قاحلة وبات قاب قوسين أو أدنى من خسران إنسانيته التي فطره الله عليها. فلنعد إلى معاجم اللطف وقواميسه ولنختر لأنفسنا كلمات تليق بنا نحن الذين خلقهم الله في أحسن تقويم وجعلنا خليفته على الأرض. أعيدوا جمالكم بكلمة من لغتنا الجميلة الغنية بكل أساليب البلاغة وعودوا كما كنتم "خير أمة أخرجت للناس".

 

 

رنا جابي

كاتبة سورية

  

 

Whatsapp