أيهما أكثر إغواء؟، نداء الريح.. أم نداء الهاوية؟
أتساءل من باب التواصل مع نفسي، لا بحثاً عن جواب، فأنا أعرف مسبقاً أن لكل منهما في داخلي ظلالاً وعلامات، بيد أني الآن أتذكّر امرأةً عاصفة، وأميل إلى الريح.
ترى.. إذا كان للمرأة أن تكون عاصفة، أفلا يمكن للعاصفة أن تكون امرأة؟
كلتاهما تشهق وتزفر، وتلفح الروح بما يشبه البرق، على أن العاصفة لا تعدو كونها واحداً من أطوار الريح، وإن كان الطور الأكثر وثنية، وبالتالي فإن الريح أكثر من امرأة واحدة، بل أكثر من كونها مجرد امرأة.
أتكون هذه الظلال هي ما يدفعني الليلة إلى الكتابة؟، أم هي جنازة الأرض التي يبلبلها عويلُ ندّاهةٍ فاجعةٍ اسمها: الريح؟
أترون؟ منذ قليل كانت الورقة أمامي بيضاء كالكفن، وقد أخذ القلم الآن يشيع فيها شيئاً من الدفء والحياة.
أليست الكتابة شكلاً من أشكال مواجهة الموت؟
لماذا إذن لا نحاول أن نكتب شيئاً ما، شيئاً عن الوهم أو الحقيقة، شيئاً عن الحب أو الكراهية، شيئاً عن الدمعة أو الحجر، وإذا أحببتم.. شيئاً عن الريح؟!
أعترف لكم بكثير من الحزن والخجل، أن الريح الآن هي الصلة الوحيدة لي مع الخارج، وها أنذا أحاول الذهاب معها في اتجاهين نقيضين:
إلى أقصى البراءة والخيال على ضفاف طفولتي المبددة، وإلى أقصى النوايا المفخخة لغموض الغيب ودهائه.
ليست واضحة لي تماماً حدود علاقتي بالريح..
أحياناً تبدو لي أماً رؤوماً، تثير سجاياها حتى غيرة الآلهة.. وأحياناً عرّافةً شمطاء مجبولة بالسخط واللعنة والخراب.
تارة تملؤني بالشعر والأسى والسكينة.. وتارة بالعبث والتحدي وروح المغامرة.
هكذا أبداً كانت الريح بالنسبة إليًّ ولا تزال.
ترقّ أحياناً حتى تغدو أشبه بغزالة عاشقة، وتنفر أحياناً كأفراس وحشية مجنونة.. كما تفعل الآن في هذه الليلة الشتائية الكافرة.
أكاد أبصرها بقلبي وأذنيَّ.
(لا مبالغة في هذا ولا مجاز.. فنحن السجناء، نعتمد على قلوبنا وآذاننا أكثر بكثير مما على عيوننا).
ليتكم تصغون إليها الآن كيف تعصف وتتقصف.
تهدأ في بعض الأحيان، كأنما لتلتقط أنفاسها، ولكنها سرعان ما تنجدل وتهتاج.. تنتفض وتثور.. تعوي وتصهل وتولول.
يرجّ هزيمها الجدران والأسطحة، وتدق سنابكها الأبواب والنوافذ.
أكاد أبصرها بقلبي وأذنيّ، وهي تشد الأشجار من شعرها حتى تستغيث.. وهي تسوط الجبال، وتردح الوديان، وتطغى على البيد رمالاً عاتية، حتى ليس ثمة من زرقة ولا سراب. لكأنها تنقضُّ على الفضاء بأجرح ما عندها من طيور.. وعلى الفلوات بأشرس ما عندها من ذؤبان.. وعلى الجهات بأغمض ما عندها من طرق هاشلة وضائعة وعمياء، مخلفةً وراءها أمواجاً وزوابع، ودوامات تتكسر أصداؤها فيما يشبه صراخاً بهيمياً مجروحاً، أو نشيجاً جنائزياً مطعوناً باليأس والحنين والعدم.
أتساءل ثانية من باب التواصل مع نفسي، لا بحثاً عن جواب:
ما هي حدود العلاقة بين الروح والريح؟
بين اليأس والآس؟
بين النشيد والنشيج؟
بين الزمان والمكان؟
بين المرأة والمئذنة؟
كل هذا ينهمر الآن في الخارج مطراً مؤلماً ورخياً وعاتباً.
إذن لقد دخلت الريح في طور آخر.. في رقصة أخرى أكثر رقة ورشاقة وانسياباً، وربما أكثر صوفية.
حسناً.. أوشك الليل أن ينتهي، وها هي الريح شيئاً فشيئاً، تأخذ ملامح امرأة من ماء الورد وخمرة القداسة.
طوبى لها غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً.
طوبى لك أيتها الريح
كم أنت حرة وسيدة!
وكم نحن.. كما تبصرين!
------
سجن صيدنايا 2000
* ضمَّنت هذا النص، الوحيد من كتابات السجن، في كتابي الأخير "ليس للبكاء.. ليس للضحك" الصار عن مركز Cultur now.
فرج بيرقدار
شاعر سوري