بعيداً عن الأخطاء الكارثية والحالة المزرية الراهنة، التي لا تخفى على جل السوريين الذين يعيشون صراعاتها وأزماتها وما آلت إليه، وبعيداً عن الأخطاء الكارثية لعقد كامل من زمن الثورة.
مهما كان الواقع مزرياً لا بد من البحث عن الحلول وآلية نقاشها وإمكانية التطبيق. فأزمة الاعتقاد أن لا حل هي بتصوري أزمة فكرية، ومعضلة ثقافية، وإعلان الاستسلام للعجز، وما سيتم عرضه ليس حلاً عجز السوريون عنه، ولا اكتشافاً كان الناس بانتظاره أبداً، ولا فكاهة آخر الليل.
هي دعوة للحوار لا أكثر، للجلوس على طاولة خارج دائرة الحرب، وخارج حدود الدول المستثمرة، وخارج الصندوق وما فيه من سواد.
العلاقات الإنسانية والدولية بكل أشكالها وأنواعها قائمة على المصالح فالدول كما في المصطلح المعروف ليست مؤسسات خيرية، ولا تعمل بالمجان مهما كانت الروابط، وما صدحت به الشعوب من مناشدات الروابط الدينية أو العرقية أو الإنسانية، ما هي إلا وهم عاشه هؤلاء المساكين الذين خدعتهم الشعارات والقصص التاريخية والمسلسلات التراثية، وسياسات الأنظمة الحاكمة التي أفردت للوهم مساحات شاسعة في وجدان شعوبها، لم يتعد الشعارات قط بكل وسائلها ومنابرها المتاحة.
فكرة تخلي العالم عنا هي فكرة خاطئة بالأصل، ولا يتداولها إلا البسطاء الذين لا يرون زيف الديمقراطية الغربية، ومنظماتهم الإنسانية والحقوقية، العابثة بأحلام الشعوب في زمن السقوط، إلى أن ترتطم رؤوسهم وأمنياتهم بأرضية الفيتو، لنعيد الكرة مرات كثيرة، والنتيجة محسومة بأيدي الصناع نفسهم مع اختلاف الأدوار.
هي لعبة ممجوجة، لكنها ما تزال رائجة وفعالة مع شعوب متعبة محبطة وساذجة أيضاً، ولربما توصل البعض أخيراً لحقيقة أن هذه الأنظمة هي أنظمة وظيفية بامتياز، يتمسك بها الغرب والقوى المسيطرة ما دامت المصالح لم تنتهِ، والمهمة النهائية في تدمير البنى المجتمعية والتحتية كخيار أخير ما تزال تؤتي ثمارها.
خيار المواجهة مع هذه الأنظمة بعجره وبجره هو خيار لم تكن الشعوب تتمناه لكن لا بد منه، وبالتالي سوء إدارة هذا الملف لم يكن من الأمور غير المتوقعة في ظل عشوائية الحراك، وندرة الخبرات القادرة على القيادة السياسية والعسكرية وحتى المجتمعية في مواجهة أنظمة متمرسة تملك جهازها الأمني والاستخباري المتحكم بمسارات الشعوب ومصائرهم، وبتصوري ما وصلنا إليه في حراك الربيع العربي أمر طبيعي في ظل هذه الظروف ومساحاتها الضيقة.
وهذا لا يعني على الإطلاق تبرير الانتكاسات، وحالة الفشل السياسي والعسكري والمجتمعي بقدر ما هو توصيف منطقي لحراك شعوب ثائرة على أنظمة متمكنة برعاية منظومة النظام العالمي وحماية مصالحه.
المشكلة الكبرى لا تكمن بما آلت إليه الأمور بعد عقد من الزمان من كوارث ومصائب لا يمكن حصرها وتعداد آثارها، لكن المشكلة الحقيقية بالركون لهذا الواقع، والتسليم لليأس والشعور بالعجز الذي يحقق للأنظمة انتصارها بشكل جازم، هذه الورقة الأخطر والأهم التي تراهن عليها أنظمة الاستبداد في دوام استمرارها وقيادتها للقطيع من جديد. وإلا ما الذي يمنع شعوباً تساوى لديها الموت والحياة من الحراك من جديد؟ ما الذي يجعلهم يستسلمون للجوع والقهر وصرخات العيال لولا شعور العجز والخوف من شبه نظام فقد السيطرة. هل يمكن أن ننتظر من هؤلاء المخدوعين انتفاضة في وجه أشباح مجرد أشباح تمكنت من قلوب الناس وعقولها؟
ربما لو أعلنها شعبنا في الضفة الأخرى أمام الفصائلية وتجار الدين والدم، والأجندات العميلة والعودة لشعارات الحرية والوطنية، وأقول ربما حينها يمكن أن نشهد حراكاً حقيقياً في وجه النظام في المقابل.
الحل بما ابتدأت به، بالتفكير خارج الصندوق وخارج حدود هذه الدائرة، بالرجوع للوراء، ثم تقييم المرحلة والبحث عن النخب الاجتماعية والاقتصادية وفتح باب العلاقات والشراكات الصغيرة في مساحات ممكنة وأكثر نظافة.
الحل بالتوقف عن العبث في التمسك بالإدارات والنظم السياسية الفاشلة التي جربت حظها وضيعت فرصها. ثم امتطتها جميع سفارات العالم وأجهزتها الأمنية.
لم تعد المسألة مجرد فكرة أو دعوة لها، بل أصبحت حاجة ملحة تتمثل بتمكين فكرة الأمان المجتمعي، والصحوة العلمية. فمن غير هذين الثابتين لا يمكن أن نتوقف عن الخسائر المتتالية، ولتحقيق المنشود لا بد من إرادة حقيقية في التغيير.
الأمان المجتمعي: من طبيعة البشر بحثها عن أمانها وأمان أهلها، وهنا يتوجب التقاء الناس في وجه عصابات السلاح والقتل التي أدارت ظهرها للثورة في سبيل مصالحها وبسط سطوتها، واستبدالهم بشباب ثوري مثقف يعرف أين يوجه بندقيته.
والصحوة العلمية: في استثمار أهل العلم والاختصاص، في استثمار الأجيال والطاقات الشبابية والثروات مهما كانت شحيحة. والوطنية السورية هي المظلة التي يجب أن نحافظ عليها ونحتمي بها، وعلينا أن نرفع من قيمتها وأهميتها، فالوطن يبنيه أهله ومن كان أهلاً لذلك، يبنيه المثقف الواثق بنفسه وبأبناء وطنه، أما المهزومون فلا طائل منهم ولا حاجة إليهم.
محمد الحموي كيلاني
كاتب وإعلامي سوري