قيصر وبعده  مذابح ومقابر النظام السوري


لم تكن مفاجأة شهادة الشاهد الذي أخفى شخصيته في المحاكمة التي تجري لاثنين من ضباط المخابرات في فرع الأمن الداخلي في ألمانيا بقدر ما كانت المفاجأة في الحجم الذي شكلته الأعداد في هذه الإفادة، فقد أفاد الشاهد الذي كان كما يبدو يعمل في مجال الدفن أنه كان يشارك مع فريقه المؤلف من 15 عنصرًا والمكلف من إدارة المخابرات في دفن  ما يقارب 4000 جثة أسبوعيًا ترد في برادات  يحتوي كل براد بين 400 و500 جثة، كانت ترد من فروع المخابرات ومن السجون المدنية والعسكرية  ومن المشافي العسكرية وحتى من مشفى المواساة التابعة لجامعة دمشق والمجتهد التابعة لوزارة الصحة. استمر هذا الشاهد بعمله سبع سنوات، وبحسبة بسيطة يكون العدد الذي شارك بدفنه حوالي مليون شخص، وإذا كان الشاهد قيصر قد وثق صور الذين قضوا تحت التعذيب مدة سنتين، فالشاهد الجديد يوثق بالأرقام هذه الأعداد المخيفة والصادمة، ولن نسرد هنا تفاصيل ما قاله الشاهد لأنها مرعبة ولا إنسانية ونكتفي بالأرقام التي وردت على لسان الشاهد المخفي اسمًا وشكلًا.

لا نريد من هذا السرد تجريم النظام أو إدانته، فهذا له مجاله وله أناسه من يوثقون ويتابعون منذ عام 2011،ونحن عشنا واقع النظام وإجرامه قبل 2011 بكثير، فمجازر حماة في الثمانيات لاتزال إلى الآن غير موثقة وملفها مفتوح وقد وصل الدجل والاستخفاف بعقول الناس  أن ينكر أحد المجرمين الأساسيين فيها معرفته بذلك وحتى معرفته بحماة، والمطلوب من هذه المحكمة التي تجري الآن بألمانيا  ليس إدانة ضابطين سوريين من ضباط المخابرات، ولكن إدانة النظام كاملًا أمام أعين العالم الذي أغمض عينيه عن جرائم النظام لأكثر من أربعين عامًا.

يصادف أن يكون يوم 2 تشرين أول / أكتوبر من كل عام يوم اللاعنف وهو ذكرى المحامي الهندي المهاتما غاندي الذي قاد بلاده إلى الاستقلال عن بريطانيا بثورة سلمية بدون عنف، إلا أنه وبعد الاستقلال قضى نحبه على يد أحد من حررهم من الاستعمار.

نريد هنا أن نلقي الضوء على هذا العنف الوحشي وعلى من يمارسونه وهل هذه الكائنات من جنس البشر أو هي مخلوقات خاصة تختلف عن باقي البشر، كانوا يلقون بالجثث {حسب شهادة الشاهد المخفي} من البرادات بالرفش في حفر تتسع الواحدة للمئات وبعمق يصل إلى ستة أمتار، وعندما يظهر على إحدى الجثث أنها مازالت على قيد الحياة، كان الضابط المرافق يأمر الجرافة بدهسه. هل هذا من صنع البشر أما أنها كائنات مختلفة كما أسلفنا.

في دراسة تعود لستينات القرن الماضي وثقتها منظرة سياسية اسمها حنة آرندت نشرتها في مجلة نيو يوركر تحت عنوان عادية الشر حول محاكمة أدولف أيخمان أحد المسؤولين عن ترحيل وإعدام اليهود وغيرهم إبان حكم النازيين في ألمانيا، والذي اختفى بالأرجنتين وخطفته إسرائيل عام 1960 وحاكمته وأعدمته، تقول الدراسة: لقد أنكر أيخمان وبإصرار أنه ارتكب أيًا من جرائمه بمبادرة شخصية منه، وأنه لم يملك النية بالمطلق لفعل الشر أو الخير على حد سواء، هو لم يفعل ـــــــ كما يدعي ـــــــــــ  سوى طاعة الأوامر، وتبين آرندت أن أعظم الشرور في العالم يرتكبها " نكرات " دون دوافع أو قناعات، وكل ما في الأمر أنهم تخلوا بملء إرادتهم عن إنسانيتهم حين قرروا أن يتبعوا الأوامر فقط. وفي نفس المجال كتب "كولن ولسون" في كتابه "التاريخ الإجرامي للجنس البشري ـــــ سيكولوجية العنف " عن مذبحة ارتكبتها أيضًا القوات النازية عام 1944 في قرية فرنسية، حيث قام الجنود الألمان بجمع سكان القرية وأمروهم بالتوجه نحو الساحة، ثم فصلوا النساء والأطفال وساقوهم إلى الكنيسة. كان الجنود لطفاء يضحكون ويلاعبون الأطفال، ثم عند إشارة من القائد، فتح الجنود النار على الرجال فقتلوهم جميعًا، ثم أضرموا النار في الكنيسة التي جمعوا فيها الأطفال والنساء وأحرقوهم أحياء، وحين كان يحاول بعض الأطفال الهرب من النيران كانوا يمسكونهم ويعيدوهم إلى النار. ويذكر ولسون شهادة رجل سويسري شهد الواقعة الذي قال: أنا مقتنع أن الجنود لم يشعروا بكراهية تجاه الأطفال الفرنسيين حين كانوا يداعبونهم ولو جاءتهم أوامر لاستمروا في المداعبة، كان الجنود الألمان واقعين تحت تأثير الأوامر، وكان للأوامر تأثير التنويم المغناطيسي. وإبان الاحتلال الصهيوني لفلسطين ارتكبت العصابات الصهيونية الكثير من المذابح الجماعية بحق الفلسطينيين العزل، وكانت مذبحة قرية كفر قاسم هي الأشهر حيث أفنت المذبحة جميع سكان القرية في محاولة لترويع القرى الأخرى لتترك قراها وترحل، وقد كان.

لا يعفي كل ما أوردناه من يقوم بهذا الفعل الوحشي من المسؤولية، فالمساءلة والعدالة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يساهم بالمصالحة والوئام من جديد. ولكن يبقى السؤال الأهم وهو أن النظام الذي يحرض على هذه الأعمال ضد شعبه أو ضد غيره من الشعوب ماذا يسمى، وهل يكفي محاسبة الفاعلين الصغار لينجوا الكبار، ومتى سنصل إلى وقف هذا السلوك الإجرامي ومحاسبة فاعليه.

في الوضع السوري هناك بعض الدول تحرض وتساهم في العنف ضد شعبنا وكأن إجرام النظام لا يكفي، وكل ذلك يجري على مرأى ومسمع دول غربية تدعي الديمقراطية وتقول بحقوق الانسان، وحتى الأمم المتحدة ترى وتسمع ولكنها تتفرج لأنها إرادة الكبار فالأمم المتحدة من الكونغو عام 1960 إلى رواندا إلى تشيلي وأخيرًا إلى منطقتنا العربية تملك تاريخًا وسجلا مخزيًا يساهم في دعم الدكتاتوريات واجرامها.

 

محمد عمر كرداس

كاتب سوري

Whatsapp