المرحلة الثالثة (مرحلة تأسيس بنية الاقتصاد الجديد)
من المفترض ألا تتخذ الحكومات المؤقتة لقرارات مصيرية حول شكل الاقتصاد دون الحصول على الاجماع المجتمعي المطلوب، ودون رصد وتحديد مشاكل الاقتصاد الحالي وتوصيفها بدقة وعلمية. ولذلك، يطرح في هذه المرحلة للنقاشات المستفيضة التوجهات الاقتصادية التي ستعتمدها الحكومات القادمة وفق شكل النظام السياسي.
لكن على الحكومة المؤقتة أن تمهد الطريق لبيئة استثمارية واعدة تتماشى مع موقع سورية الجغرافي وامكاناتها ومواردها. ويمثل التصنيع الذروة التي يجب على الحكومة المؤقتة تمهيد الطريق لها، وجلب الاستثمارات الصناعية التي تحقق أكبر ربحية ممكنة بالاعتماد على الموارد المتاحة في الداخل، وبما يفيد إعادة الإعمار المنتظرة.
الآثار الاجتماعية للحرب والتدهور الاقتصادي، في ظل الثورة السورية
تعد الآثار الاجتماعية المرتبطة بالنزاعات المسلحة وخصوصاً الداخلية من أشد وأعقد المشكلات التي تنتج عن العمليات الحربية، وذلك لآثارها الممتدة على مدى سنوات النزاع وحتى بعد انتهائه ولسنوات أيضاً، وتنتج هذه الآثار عن منظومتي العمليات العسكرية والحالة الاقتصادية التي تخلفها النزاعات المسلحة عادة. وتشمل بعمقها كل فئات المجتمع وشرائحه العمرية، وتؤثر على مستقبل الأجيال الناشئة من أطفال وشباب، ولذلك تمتد آثارها لسنوات نتيجة احتفاظ المخيلة الفردية والجمعية بمجريات الصراع وما نتج عنه لسنوات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذه الآثار والنتائج بمجملها صعبة القياس ولا تخضع في معظمها للمقاييس الكمية التي يمكن علاجها بسهولة، الأمر الذي يوجب التعامل معها من منطلقات مختلفة ودراسات تفصيلية أكثر لتأثيرات سنوات النزاع المسلح على الحالة الاجتماعية والمجتمعية عامة.
ويمكن القول إن بعض مظاهر الآثار الاجتماعية المرتبطة بالنزاعات المسلحة لا يمكن معالجتها إلا بعد انتهاء النزاع وعودة عجلة الحياة لطبيعتها بعد أن تأخذ العدالة مجراها.
في حالة سورية فقد أثرت العمليات العسكرية والقصف والاعتقال والتشريد والنزوح بشكل مأساوي في الوضع الإنساني والاجتماعي للسوريين، وبالرغم من تنامي دور المجتمع المدني، إلا أن الأزمة أدت إلى تدهور في العلاقات الاجتماعية وانتشار للتطرف والتعصب. وتأثرت سلباً القيم والأعراف الاجتماعية، من خلال تأجيج أفكار وسلوكيات الانتقام من الآخر، وتسبب كل ذلك في خسارة كبيرة في الانسجام والتضامن الاجتماعي والموارد البشرية على المستويين الاجتماعي والثقافي والتي يصعب تعويضها، وساهم في نشوء الكسب غير المشروع باستخدام العنف مما يعزز عوامل التنمية العكسية.
إن التأثير الكبير للعمليات العسكرية على البنية المجتمعية يرفع من مستوى الخطورة المستقبلية على بناء تكافل مجتمعي، ومحاصرة الظواهر التي تنشأ عن غياب هذا التكافل يتطلب موارد كبيرة جداً مادية وبشرية، لذلك يتوجب العمل على تفعيل برامج محددة ودراسة معطيات هذا الواقع باهتمام نظراً لتأثيراته على المجتمع ككل. وأبرز القطاعات المتأثرة هي الصحة والتعليم، كما أن مشاكل النزوح والتشرد، والمشاكل النفسية والمادية الناجمة عن موت المعيل، والاعتقال والإعاقة قد لا تنفع معها المعالجات السطحية. مع العلم أن قلة قليلة جداً من أبناء سورية لم يتأثروا بهذا الواقع.
مأساة القطاع الصحي
بدأت مأساة القطاع الصحي في سورية مع بداية الثورة السورية، إذ تراجع الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة بنسبة كبيرة وصلت لحدود 50% خلال العامين (2011-2012). وقد تم تخفيض الإنفاق العام الحكومي على قطاع الصحة من 7.5 مليار ليرة عام 2010 إلى حوالي 5.2 مليار ليرة عام 2011.
وقد أدى ذلك إلى تراجع في الخدمات الصحية التي تقدمها حكومة النظام، إذ يعاني الكثير من المواطنين من صعوبة الحصول على الرعاية الصحية والطبية حتى الأولية منها لعدة أسباب منها خروج عدد كبير من المشافي العامة – والخاصة- من الخدمة نتيجة تعرضها للقصف أو تحويل بعضها إلى مواقع عسكرية، أو استنزاف بعضها الآخر نتيجة استقبالها لجرحى قوات النظام، مما أعطى الأولوية لعلاج مثل هذه الحالات في المناطق التي يسيطر عليها النظام.
نتيجة هذا التراجع في دور الدولة في الرعاية الصحية، وفي سبيل تقديم الخدمات الطبية والرعاية الصحية اللازمة للمواطنين تم اللجوء إلى أشكال بديلة من تقديم الخدمات الطبية للمواطنين ومنها المشافي الميدانية في بعض المناطق. إذ تشهد المناطق التي انسحب منها النظام مثل مناطق ريف حلب وادلب وحماة، أو التي قرر معاقبة أهلها ففرض عليها حصارًا وضيق عليها الخناق وأوقف جميع أشكال الخدمات العامة فيها، تشهد هذه المناطق وجود مشافٍ ميدانية يقوم عليها عدد من الأطباء والممرضين والمسعفين ويبذلون كل جهدهم ووقتهم لتقديم الرعاية الطبية اللازمة للمرضى من المدنيين أو من المصابين نتيجة القصف الذي تتعرض له المدن والقرى السورية.
لكن وجود المشافي الميدانية أو بعض المشافي الأخرى في المناطق التي لا يسيطر عليها النظام، لا يعني وجود قطاع صحي يصل إلى مستوى المشكلات التي يتعرض لها المواطنين صحياً، فما يجري في سورية كارثة إنسانية صحية، نظراً لازدياد حالات الإعاقات وانتشار الأمراض المعدية وأمراض سوء التغذية، ونقص الأدوية المستوردة وتأمينها من المنظمات، ودمار أو توقف معظم معامل الأدوية المحلية عن العمل.
مع وصول البنية التحتية الصحية السورية إلى نقطة الانهيار، لا يجد المرضى المصابون بأمراض مزمنة، بما فيها السرطان والسكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، والذين يحتاجـــــــــون لمساعدة طبية مستمرة، مكانًا يذهبون إليه من أجل الحصول على الرعاية الطبية.
المدارس والتعليم الإلزامي والثانوي
تبين الأرقام الاحصائية المرتبطة بهذا الشق من القطاع التعليمي حقائق صادمة لجهة التعليم في سورية خلال الأزمة، مما ينذر بمشاكل اجتماعية وتنموية كبرى نظراً لما يرتبط بالواقع التعليمي المتردي من ظواهر الأمية، وضعف التعليم وآثار ذلك على البناء المجتمعي ككل وعلى عملية التنمية التي تنتظر سورية بعد انتهاء الأزمة. فعدد الطلاب السوريين في المراحل الثلاثة (5) مليون طالب من الذكور والإناث، ونسبة الطلاب المتضررين كلياً من توقف الدراسة هي (أكثر من 50 %)، ونسبة الطلاب المتضررين جزئياً من توقف الدراسة هي (43 %).
فيما يقدر عدد المدارس السورية بـ 22000 مدرسة تضرر منها أكثر من 60%، مما نشط المعاهد الخاصة التي ترهق كاهل الأسر.
الجامعات السورية
بعد اندلاع الثورة السورية كان من الطبيعي أن تخرج المظاهرات السلمية من الجامعات العامة والخاصة وظهرت نتائج التاريخ الأمني الطويل في التعامل مع طلبة الجامعات وأساتذتها بوضوح صارخ في التعامل مع حراك الطلاب ولاسيما في جامعتي دمشق وحلب، حيث تحول العدد الأكبر من الكليات والأقسام إلى مراكز تتبع لنشاط الطلبة والأساتذة وكتابة التقارير الأمنية، وأصبح "الاتحاد الوطني لطلبة سورية" هو المركز الأساسي لتجمع الشبيحة وتسليحهم وتمويلهم، وإعدادهم لقمع التظاهرات، وتعذيب الطلاب وحتى قتلهم، إن اقتضى الأمر.
الإعلام والصحافة
الدولة الشموليّة تتحكّم في كلّ مفاصل ومرافق الحياة العامة، فكانت خدمة الإنترنت واحدة من الخدمات التي سرعان ما قطعتها الحكومة السورية عن المناطق التي خرجت عن سيطرتها، فكان لا بدّ من إيجاد بدائل. ولعلّ أشهرها خدمة الاتصال الفضائيّ التي تعتمد على الأقمار الصناعيّة، والتي تعمل باتجاهين (إشارة صاعدة، وأخرى هابطة)، لذا فلا حاجة للخط الهاتفيّ. وقد انتشرت هذه الأجهزة بكثرة في المناطق المحررة، وأصبحت الوسيلة الأبرز للتواصل بين الناشطين فيما بينهم، وبين الناشطين والعالم لإيصال المواد الاعلامية عبر مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة وصفحات ومواقع الانترنت التي أصبحت تعد بالمئات. ومن هنا أتت فكرة مواجهة إعلام النظام بآخر معارض، لكنه يفتقر في كثير من الأحيان للحرفية أو استخدام اللغة الاعلامية التي تؤثر في شرائح المتلقين، خصوصاً إذا ما اعتبرنا أنه موجهٌ للخارج.
مشكلة انعدام الأمن
الصواريخ تهدم بيوتهم. الطائرات تقتل أحلامهم. المدافع تقض مضاجعهم.. والدمار يحيط بهم.. يهربون من رائحة الموت المنتشرة خارج منازلهم ليجدوا صورها على التلفاز أو في الفضاء الالكتروني تلاحقهم في يقظتهم وأحلامهم. عبثًا يبحثون عن أمن مفقود. وعن فسحة لتأمل واكتشاف مفردات الحياة من حولهم. فقد أصحاب الأجسام الصغيرة نعمة الأمن، ونعمة النوم بهدوء، ونعمة اللعب بطمأنينة.
يرى علماء النفس أن الآثار الحقيقية يمكن تلخيصها بآثارٍ آنية أي أثناء تعرضهم للأذى، كالصدمة الناجمة عن مشاهدة حالات الموت والتشوه للأقارب، وتترجم في قلة الشهية والابتعاد عن الناس والميل للتشاؤم واليأس وسرعة ضربات القلب والبكاء والاكتئاب والصراخ أثناء النوم وهذه الصدمات تصبح خوفًا مزمناً (فوبيا) من الأحداث والأشخاص المرافقة للحرب، كصوت الطائرات ورؤية الجنود، هذه الآثار التي قد تشتمل جيلاً كاملاً يحملون داخلهم هذه الآلام ولو بشكل متفاوت. فقلة قليلة من أطفالنا قد تخرج أكثر قوة وقدرة على التحمل وأكثر وعياً وتمرساً مع الواقع الصعب وتتأقلم مع آلامه.
أما الأطفال الأكبر سناً فقد يندفعون لحمل السلاح فهذه الصور المؤلمة التي خزنها أطفالنا في طفولتهم لن تموت بسهولة من عقلهم الباطني لأن الأطفال لا يرون مبرراً لسطوة نظام سرقت منهم نعمة الأمن وجعلتهم نهبة للانطواء والعدوانية ولو وجدوا هذا المبرر فهو لا يقدم لهم حلولاً منطقية لهمومهم ومشكلاتهم، وبواقع أكثر مرارة هم أصحاب الاحتياجات الخاصة والمعاقين بسبب تلك الحرب العشواء.
العلاج في مرحلة مابعد سقوط النظام والاستقرار
عانت منظمات المجتمع المدني في سورية خلال خمسين عامًا من حكم العائلة الأسدية من التضييق والتهميش والمراقبة وسطوة الموافقات الأمنية مما ضيق عليها وصعب عملها، إن سمح لها بالوجود أصلاً. لكن الدور الأهم يبرز لهذه المنظمات بعد سقوط النظام عندها يجب أن تتضافر جهود الدولة مع جهود مؤسسات المجتمع المدني لتقديم برامج متكاملة وتأمين وسائل لاحتواء الأزمة مع البيت والمدرسة فنحن أمام مشاكل مجتمعية شاملة لا نستطيع تجاهلها أو إهمالها، لأن الطفل هو لبنة بناء المجتمع وتجاهل آلامه يعني خللاً في بنية المجتمع الحضاري.
ولعل هذا هو التحدي الأبرز الذي ينتظرنا في وطن تكثر فيه الهموم والتحديات لذلك يجب تعبئة الطاقات الوطنية للتغلب على الموت المنتشر هنا وهناك وآلام الإعاقة والتشرد وهموم التعليم والإعمار وهي أمور لا خيار لنا بالتصدي لها وحملها لأن مستقبل المجتمع يقرأ من خلال واقع أطفاله والاهتمام بهمومهم ومحاولة ردم الهوة بين ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم والعمل على تعزيز إنسانيتهم التي خطفتها الحرب.
سمير خراط
كاتب سوري