تحوّلات فينوس


 

 

نظرتُ إلى السّاعة بتثاقل، وبصعوبة أدركت تطابق المؤشِّرَين على رقمين متماثلين، بعد قليل سمعت إحدى عشرة طلقة.. بدت السّاعة وكأنّها ملعب لكرة القدم. فركت عينيّ.. ولأنّ قدميَّ لم تصلا إلى أرض الغرفة، اضطررت إلى القفز من فوق السرير، ممّا أحدث ألماً في أعضائي..

وقت طويل فصل بيني وبين باب الغرفة.. عندما وصلت، فوجئت بأنّ المزلاج فوق مستوى نظري بكثير.. وقفت حائراً : كيف يمكنني الخروج؟

لم أجد سوى ملقط الشعر منقذاً لي .. تناولته وبدأت أنقر على الباب.. حين فُتح، لم أرَ سوى حذاءٍ رياضيّ. رفعت نظري إلى الأعلى فإذا بابنتي نور ذات السنوات التسع تصرخ في وجهي بملامح بدت بريئة:

صحّ النوم بابا … مالت نحوي… وحين طبعت قبلةً على خدّي أحسستُ بأنّ فمَها أكبرُ من مساحة خدّي بكثير: -باي بابا … خرجت وهي تحمل حقيبتها المدرسيّة على ظهرها… أدهشتني رشاقتُها رغم أنها تحمل هذا الشيء الكبير…

يبدو أنّ المنزل أصبح خاوياً من الجميع… لم أستطع الوصول إلى الصنبور كي أغسل وجهي… استجمعتُ قواي وحملت مرآة ابنتي الصغيرة كي أرى من أكون، وما الذي حدث لي… بدا وجهي بحجم قطعة نقود معدنيّة … 

لا تظنّوا بأنّه لم يخطر بذهني أنني ما زلت نائماً .. وأن ما أراه لا يعدو أن يكون حلماً. لذلك وخزت خاصرتي بطرف المرآة… فأحسست بألم فظيع.

بدأت أفكّر: هل داهم مدينتي زلزال … هل تناولتُ طعاماً أو شراباً أدى إلى تقلّصي؟

تذكّرت أنني تناولت العشاء مع ابنتي وبقيت كما هي .. فما الذي حدث لي؟

البارحة ضمّتني سهرة حميميّة في نادي حلب مع ثلاثة من رفاق العمل … وكي لا نعاقرَ الخمر، شربنا كثيراً من الجعة امتثالاً لوصيّة رفيقنا الطبيب بسّام الذي نصح لنا بها بوصفها مادّة تدرّ البول، وتساعد على التخلّص من الرمل الذي لا يخلو جسم إنسان منه.

صحيح أننا أكثرنا من الشرب، ولكنْ إمعاناً في الفائدة، وليس لسبب آخر – لا سمح الله - 

 الخدر الذي أصابنا جعلنا قادرين على التخلّص من عقدة الخجل ورهبة الخوف من الحديث الصريح… وفي غمرة انهماكي في النّقاش، لفتت نظري ساقان طويلتان انحسر الثوب الأسود عنهما…

اختلست النظر بخجل، وكي أتجرّأ على التمعّن في المرمر اللامع تحت الغلالة، طلبت زجاجةً كبيرة من العرق.

دار حديثُنا على مسألة التخلّف ومشاكل البطالة وغلاء الأسعار وقمع الساسة. كما تكلّمنا على أخطاء بعض أصدقائنا وسوء معاملتهم، وتبجّح بعضِهم رغم تفاهة إنجازاته التي يعتزّ بها.

ولأنّ مشاركتي انحصرت في هزّ الرأس بالإيجاب على كلّ ما يُقال، ظنّ وائل أنني ثملت. لكنّني -في الواقع -كنت أنوّس عينيَّ للفتاة التي بدا نهداها نصف عاريَين.

حين اتّخذ حديثنا طابع الجديّة والغيرة على الوطن والدين، علا صوتنا، ولمحتُ السّاقين تتجهان نحوي… تسارعتْ نبضاتُ قلبي حتى خُيّلَ إليّ أنني أسمع صوتها.. 

- Bonsuar، قالت شفتان حمراوان تظهر وراءهما ابتسامةٌ صفراء.

قدّم لها يعقوب كرسيّه باحترامٍ شديد. جلست وهي تقول:

- Sorry.. سمعتُ طرفاً من حديثكم .. اسمي الدكتورة حميدة، وأنا متخصّصة في القضايا الإسلامية، ولي وجهة نظر في الأمر الذي تبحثون فيه.

صادف جلوسها على زاوية الطاولة، قربي تماماً .. وحين لفّت ساقاً على ساق، انحسرت غلالةُ الثوب، وبدا ما فوق الركبتين واضحاً تماماً… ولأنّني تملّيت الفخذين طويلاً وأنا أفرغ كأس العرق في جوفي… لم أعد أفهم شيئاً ممّا تقولُه عن التطرّف الأصولي للأحزاب.

وآخر جملة أذكر أنّني سمعتها كانت تقدّم مصطلحاً جديداً للأحزاب التي تمارس دور (الحرملك) في ظلّ الحزب المَلَكي الروسي.

كنت منهمكاً في إشباع فضولي للتلذّذ بالجزء الذي بقي خافياً عن ناظريّ.

انفضّت الجلسة ونحن نتتابعُ في تقبيل يد المحدِّثة، بعد أن وافقناها على كلّ ما قالته عن تحرير المرأة والتقشّف والنظر بعين العطف إلى المستضعَفين.

يبدو أنّ عصام -مثلي -أصابته جلسة الفتاة بلوثةْ، ممّا دفعه إلى الإصرار على اصطحابي إلى بيته: 

- إنّني أقيم في المنزل وحدي، وأريد أن أريك قناةً جديدة ظهرت على إحدى المحطّات الفضائيّة..

خلال ثلاث ساعات ونحن نراقب ما يُعرض على قناة Venus، لم نتحدَّثْ سوى بضع جمل تُعقّبُ عمّا نشاهد: -سبحان الخالق .. ما هذا الجمال … ولكن … يتّضح -أيضاً -ممّا نرى أن المرأة في الغرب لم تعد سوى سلعة للعرض والإيجار…

وحتى لا أتحوّل إلى زبون، ما إن أُغلقت القناة، حتى استأذنته بالرحيل.

ها ا ا ا .. ربما يكون العشاء الثاني هو السبب…

جاهدت طويلاً للوصول إلى سمّاعة الهاتف: -عصام .. كيف أحوالك؟

- بخير.. سوى أنّك أيقظتني وما زلت أشعر بالحاجة إلى النوم.

- ولكنّني تقلّصت … ألا تلاحظ تغيّراً في حجمك ؟!.

ضحك ضحكةً دوّت في أذني: -الله يسامحك.. هل هذا وقت المزاح.

حين أغلق السّماعة فُجعت… العشاء إذاً لا علاقة له بالحجم.. كما أن هزّةً أرضية لم تحدث في مدينتي.. هل يُعقل أن أكونَ أوّلُ من أصيب في العالم بهذا المرض؟

عدت إلى مكابرتي، وشحذت قواي لتشغيل جهاز التلفزيون..

في القناة الثانية خطبة الجمعة .. الناس بحجوم طبيعية .. الخطيب يتحّدث بصوت جهوَري حماسي يُنبي عن قوّة بدنية واضحة … شعرت بقشعريرة تهزّ كياني وأنا أستمع إلى أمثلته عن الأخلاق الإسلامية الرفيعة التي سنّها الأولون…

ولكن .. يا للغرابة … ((أيّها الأخوة.. يا معشر المسلمين الصالحين .. إن في عصرنا الراهن تجسيداً واستمراراً لتلك الأخلاق السامية التي تمنحنا انتصاراً بعد انتصار..)) وهو يتفوه بتلك الكلمات… يا للغرابة … بدأ شكله يتقلّص … يصغر … يصغر… بدت لحيتُه غابةً تخفي خلفها وجهاً يشبه وجه الأرنب… العمامة كأنّها قبّة الصخرة تسبح في الهواء…

فركت عينيّ ونظرت… لم يتغيّر شيء… المصلّون بحجومهم الطبيعية وعيونهم ترقب أرنباً يخطب.

أدرت المؤشّر إلى القناة الأولى … ها !!! .. ها هو مدير شركتنا بطلعته المهيبة يتحدّث إلى برنامج (طائر التلفزيون) …

الهاتف يرنّ: -أهلاً يعقوب …

- سامي .. هل تلاحظ ما أراه؟

- ماذا؟

- مديرنا يصغر … كلّما طال حديثه أكثر يشتدّ حجمه صِغَراً …

- صح .. صح .. ماذا نفعل؟… إذا علم الناس قزامة مديرنا لن نقدر على مواجهة أحد بعد ذلك…

- المخرج صاحبي… سأتّصل به… لابد أن يستخدم تقنية عالية كي يعيد إلى المدير مظهره اللائق.

آه .. يعقوب ذكي … ها هو صوته يظهر على الشاشة:

- مديرنا العظيم … صاحب الفضل في كلّ ما آلت إليه حال الشركة من تطوّر وتقدّم… (ألاحظ أن مديرنا بدأ ينتفخ… ويعود تدريجياً إلى شكله الطبيعي).

يتابع يعقوب: -إنه مثال الأخلاق الحميدة والتفاني في العمل… منذ جاءنا لم نعد نحمل همّاً .. يحمل عنّا مشاكلنا … (المدير يكبر ويعقوب يتابع): -إنّنا ننافس الشركات الكبيرة، وعمّا قريب نرسل خبراءنا إلى الشركات الأخرى كي نعلّمها أساليبَنا في توزيع أدوار العمل بشكل رائع …

وجه المدير يسدّ شاشة التلفاز… لم تعد الكاميرا قادرة على تصوير حجمه الكامل.

ولأنّ خطّ يعقوب مشغول بحديثه مع التلفاز لم أتمكّن من تحذيره، لذلك صرخت بامتعاض:

- ولك يعقوب.. حاج … قد ينفجر مديرنا من كثرة النفخ، ولأنّ لديَّ موعداً هاماً لم أتمكّن من متابعة البرنامج. 

الساعة السادسة وقد أتأخر على الحاضرين، خرجت مسرعاً.

: -أهلين جار… ردّ السلام أبو أيمن من غير أن يلاحظ شيئاً عليّ.

سرت كخروف يُقاد إلى مسلخ … وفي الطريق: شرطي المرور يوقف سيارة كبيرة ينزل منها رجل قزم يعطي الشرطي قطعة نقود تملأ كفّه… رجال أقزام يتشاتمون. الغريب أن الأطفال لم يتغيّر شيءٌ فيهم …

ولأنّني لم أقدر على امتطاء سيّارة الأجرة .. هرعت راكضاً إلى شارع بارون وأنا أفكّر: -ما الذي سأقوله لهؤلاء الذين تكبّدوا مشقّة الحضور ظنّاً منهم بأنّ لديَّ شيئاً مفيداً أقوله لهم.

الأغرب من ذلك كلّه … لاحظت أنّني كلّما اقتربت من المكان وأنا أفكّر في فجيعة الآخرين … يزداد حجمي.. وما أن وصلت إلى مبنى الاتّحاد حتى عدت إلى حجمي الطبيعي…

أيّها السّادة أرجو ألاّ تكيلوا لي المديح المجاني… إنَّ لي حجماً أخشى أن تؤذيه المجاملة … فأُمسي مثل المدير.

 

 

د.محمد جمال طحان

Whatsapp