وطن


 

 

 

(سأخون وطني) هكذا عَنْوَنَ كتابَهُ الأديبُ السوريُّ الكبيرُ بعد أن ترك مدرسته في غوطة دمشق بسبب الفقر الشديد، وعاد لمدينته (سلمية)، وانضم للحزب القومي السوري لوجود مدفأة في مقر الحزب التي كان يفتقرها في بيتهم، نعم لوجود مدفأة لا أكثر من ذلك، ولقد تعرض للاعتقال عدَّة مرّات، وأمضى فترةً كبيرةً من حياته في بيروت.

 هل خان محمد الماغوطُ وطنَهُ أم وطنه الذي خانه؟!.. 

قبل الإجابة على سؤال كهذا علينا أن نعرف أولاً أن الصراع في جميع القضايا محتدم بين التفسير العقلي والتفسير العاطفي، فدائماً ما تكون التفسيرات العقليّة قاسية ومستفزّة للعواطف ولكنها تبقى أقرب للحقيقة، وإذا ما اقتربنا أكثر من العقلانية يحضر هذا السؤال، هل وُجِدَ الإنسانُ خدمةً للأوطان أم وُجِدَتِ الأوطان خدمةً للإنسان؟.. 

قال الله تعالى: (وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه)، والدولُ الحديثةُ اليومَ تحاولُ جاهدةً تقديم كل ما يحتاجه مواطنوها من خدمات لتأمين حياة كريمة لهم، بينما لاتزال خطابات عالمنا الثالث تغصّ بالتضحية من أجل الوطن، وأن الإنسان قد سُخّر ليموت من أجل وطنه، حتى لو كان يعيش في مجمع للقمامة عليه أن يذرف الدموع شوقاً لهذا الوطن.

فمن الذي تلاعب بمشاعر شعوب العالم الثالث ليحوّلها من حنين إلى الجمال إلى حنين للمأساة، نعم.. الحنين للماضي فطرة إنسانية، لأننا كَبَشَرٍ نحنُّ دائماً ونشتاق لمكاننا الأول الذي خرجنا منه (الجنة)، وهذا أمرٌ صحيٌّ، ولكنّ الأمرَ المَرَضِيّ أن ينتابَكَ شوقٌ للمأساة، وهنا نتساءل كيف تستطيع أن تقنع شاباً عربياً تخرَّجَ من جامعات الغرب وأخد فرصةَ عملٍ يستحقُّها وبدخلٍ يؤمِّن له حياةً كريمةً، أن يتباكى على بلاده التي طردته واعتقلته وذاق فيها الذلَّ والتَّشريد والجوع؟!

من الذي شوَّه مشاعرنا، وهل المشاعر قابلة لصناعتها بطريقة ما؟

يقول المفكر الفرنسي (غوستاف لو بون) إنَّ السلطة هي من توجّه المشاعر تجاه غاياتها السياسية من خلال الخطابات الحماسية وزرع الأفكار والترويج لها، وبمرور الوقت والتكرار تصبح هذه الأفكار مقرونة بالمشاعر، وفي بلادنا فعلت ذلك الأحزاب القومية والعروبية والطائفية، فكانت بلادُنا تعتزُّ بالانتماء للأمة الإسلامية، ومن ثمَّ صار الاعتزاز بالعروبة فقط، حتى وصلنا للوطنية الضيقة (سوري، فلسطيني، مصري… إلخ)، ففي مقابلة تلفزيونية مع رجل فلسطيني يسكن في قرية لبنانية تقع على الحدود الفلسطينية في مقابل قريته الأمّ والتي يكاد يرى سفوحها من مكان سكنه، تسألُهُ مقدِّمة البرنامج عن شعوره عندما يمدُّ نظره تجاه موطنه الأصليّ، يجيبُها إنني أشعر بالحنين والشوق لبلادي فلسطين ولكن لا أعرف ماذا سيكون شعوري لو أنَّ مخطّطَ (سايكس بيكو) انحرف قليلاً وضمَّ قريتي الأمّ إلى لبنان بدلاً من فلسطين، هل كنت سأشعر بذات الانتماء والتبنّي لقضية فلسطين، كنت الآن مواطناً لبنانياً... بهذه الكلمات فجَّر بداخلي الكثير من الأسئلة عن معنى (الوطن).

فهل الوطن عبارة عن مدنٍ وبلداتٍ داخل حدود مرسومة بأقلام مستعمريها؟

وهل علينا دائماً أن نقدِّم أرواحنا فداءً لهذه البلدان بكل الحالات؟ 

وهل الوطن هو المكان الأصلي لوجود المواطن؟ إذن كيف نفسّر حالات شعوب هاجرت من موطنها الأصلي إلى بلاد أخرى واستوطنت فيها وأصبح انتمائهم لهذه البلاد كالأمريكيين من أصول أوروبية وإفريقية. 

إنَّ فكرة الوطن عند الأنبياء كانت أوسع وأعمق ممَّا دعا إليه القوميون، فها هو إبراهيم الخليل عليه السلام ينتقل إلى صحراء العرب لبناء وطنٍ جديدٍ- إن جاز التعبير- يكون فيه كما أمره ربه، وها هو خاتمُ الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلّم ينتقل من موطنه الأصلي إلى مكان آخر حيث بناء دولته المنشودة وتبليغ دعوته للعالمين، ويوسف وموسى عليهما السلام كذلك الأمر، ولا يوجد اختلاف كبير بين الأنبياء والفلاسفة في نظرتهم للوطن، فها هو (هايدغر) يقول (الفلسفة هي الحنين إلى الوطن، إنها البحث الدائم لاستيلاد الشعور بالوجود في الوطن بكلِّ مكان)، ويؤيّد هذا الرأي بعض السياسيين أمثال (بنجامين فرانكلين) بقوله (حيث تكون الحرية يكون الوطن).

إن ما فعلته السلطات المستبدّة في عالمنا الثالث هو تشويه مشاعر الشعوب تجاه أوطانها، ففي أحسن الحالات رَسَمَتْ صورة الوطن بقليل من الذكريات وبعض الحجارة وحفنات تراب، وفي كثير من الحالات أصبح الوطن مجسَّداً بشخص الزعيم، وكلَّما استمرَّ هذا الزعيم فترة أطول كان انتصار الوطن أكبر. 

هذا، وعلينا عدم التمادي في المثالية، ولسنا مطالبين بأن نكون ملائكيين أكثر من الملائكة ذاتهم، فعلينا أن لانطالب الناس بأكثر مما هو إنساني، فحبُّ الوطن غريزة، ولكن عندما يكون وطني أنا وليس مزرعة للزعيم، ففي ذات كلِّ إنسان يوجد وطن ويتجسَّد على الأرض التي تحقِّق له تلك الذات، وهذا ما عبَّر عنه الشاعر السوري عبد القادر حمّود في قصيدته (ليس لي وطن) عندما قال:

فمصيبتي أنّي بلا وطنٍ  أمـ        ـدّ على ثراه خيمتي   وحبالي

جسدي يفتِّش عن مكانٍ آمنٍ      في أيِّ أرض، فـــوق أيِّ تلالِ

كلُّ البلادِ جميلةٌ وحبيبــةٌ        إنْ  كنتَ فيهــا مطمئنَّ  البالِ

خلاصة القول: الإنسان أكثر حرمةً عند الله حتى من بيته الحرام، وخلق هذا العالم من أجلنا نحن البشر، وقد خُلِقْنا أحراراً، ولم نُخلق لنكون مزارعين في مزارع الزعماء التي أقنعونا أنها أوطاناً وعلينا أن نموت لأجلها... 

(وطني هو حريتي وفي سبيل ذلك تقدم الأرواح).

 

 

محمد ياسين 

كاتب سوري

Whatsapp