من الوطنية السورية إلى الاستبداد


 

حصل السوريون على الاستقلال، فتشكلت بدايات للوعي الوطني في سورية حين صار المواطن يمارس حقوقه وواجباته، في الجمهورية الأولى، اعتمادًا في ذلك على شكل شبه ناجز من المؤسسات الناشئة، والأطر الدستورية التي أقرها نظام ديمقراطي، يحترم الحريات العامة ويصون حقوق المواطنة. 

كان ذلك سابقًا على الحقبة الديكتاتورية لحكم الأسد الأب، بيد أن هذا التأسيس لم يخلُ من العيوب، فقد حمل بين طياته ملمحاً مضطرباً للوطنية السورية، مازال يمكث بصورة محطمة في ثنايا الذاكرة السورية، تمثل ذلك بالحكومات الانقلابية التي يتم الاعلان عنها، حين كرست مبدأ الانقلاب، وأوقعت المجتمع والدولة في مأزق الهشاشة والانهيارات المتتالية، التي كانت تطال باضطراباتها تلك البنية الادارية والسياسية للدولة الناشئة.

خلّفت غضاضة هذه الحالة تحدّيات سياسية كبيرة لقرابة عقدين من الزمن لم ينجُ من أضرارها المجتمع السوري فيما تلا ذلك من تداعيات في حياة المجتمع السوري.

مثًّل مجيء حافظ الأسد إلى السلطة ختامًا لتلك السلسلة من الانقلابات، فدشن بذلك نظامًا دكتاتوريًا. تنصب فيه رئيسًا انقلابيًا في السبعينيات وكانت هذه الفعلة بمثابة اقتحام فجّ على تكوين ديمقراطي أولي ناشئ، ملحقًا به الكثير من الأذى عبر الأحكام العرفية، والاجراءات القسرية، التي عطلت التراكم الطبيعي والمنتظم لخبرات المجتمع السوري، وتحويله كليًا عن امكانية صياغة مستقبله الحر.

 ذهبت تلك السلطة المستبدة إلى تعميم سياسات اجتماعية واقتصادية تقوم على القسر والترهيب، مثلت انزياحًا حقيقيًا في عملية الوعي السوري، وأصبح ذلك تشويهًا ومنهجًا لكل ما من شأنه أن يدفع بسورية نحو نظام ديمقراطي تعددي، يساعد على التحاقها في المنظومة الدولية، وعلى نحو يجعل منها دولة العدالة الاجتماعية والقانون لكل السوريين.

 منذ ذلك الحين تم تدمير الوعي السياسي في المجتمع السوري، إذ حالت عملية المركزة الشديدة لكل سلطات الدولة، في يد رئيس الدولة، فأثّر ذلك على إمكانية تطور سورية واندماجها في المنظومة الدولية. فقد تم اختطاف الدولة وإغلاقها على كل المجريات اليومية للمجتمع السوري، فكان من نتائجها عمليات الاعتقال الواسعة، والتصفيات، وتكميم الأفواه.

 كل ذلك كان بكل أسف إجهاضًا وتحولاً مفاجئاً عن الليبراليّة السياسيّة والاقتصاديّة التي تميزت بها فترة الاستقلال خلال عقدين من الزمن، واستبدالها بمزاج سلطوي جديد طغى عليه الميل الكلّي نحو الحيِّز الاشتراكي، وإدماج مشوه للرؤية القومية والعروبية.

اتجهت عملية الانحياز للمعسكر الاشتراكي إلى تثبيت منهجية جديدة تقارع بشكل واهم ايديولوجيات أخرى مهيمنه، فكانت أكلاف الدعاية لمقارعتها باهظة الأثمان. إذ تمت محاصرة المجتمع السوري، وقمعه بالشدة القصوى. فكان التضييق على الحريات العامة، وتعطيل الممارسة الديمقراطية مدخلًا للاستبداد بحجة أن المجتمع غير واعٍ ولا يحتمل إفرازات الديمقراطية، حتى أصبحت سورية سجنًا كبيرًا للسوريين.

 ومما يمكن ملاحظته في سمات تلك السلطوية المستبدة، إنشائها لقيادتها القطرية والقومية بحماية من المنظومة العسكرية والأمنية، واصلت بعدها الدعاية لنفسها فهي الحكيمة أحيانًا والرشيدة أحيانًا أخرى، وألصقت بنفسها المعرفة الكاملة لمصالح الأمة، فادعت الخلود لنفسها، ولم تتوانى عن استبعاد أي أسلوب يجعل منها السلطة المطلقة في سورية. 

ارتكزت هذه القيادة في تكريس تلك التعمية بالاستفادة من ظروف الحرب الباردة وصراعاتها والاستقطاب الدولي والإقليمي آنذاك. فانتهج النظام الأسدي الأيدلوجيا القومية والاشتراكية في التعبئة والانتشار والتثقيف.

إلا أن تبني البعث للعروبة لم يمنع السلطة من مناصرة القومية الايرانية بالرغم من أنها القومية التي تسعى لإحلال نفسها محل القومية العربية. فربط النظام ورموزه سورية بالمصير المشترك مع إيران.

كثيراً ما كان يخفي حافظ الأسد من النوايا ما يتجاوز التوقعات في تدخله بإدارة أزمات المنطقة، وكان لديه من الأدوات وتوظيفاتها، ما يجعله مستحكمًا بأي طارئ يحيق بسلطته، وليس خافياً على أغلبية النخب السورية، كيف أن الأسد تفنن في الإساءة لكل دول الجوار ودوره المشارك في الإجهاز على المقاومة الفلسطينية وتصفية رموزها الفاعلين، فقرَّبهم واستبعدَهم حسب ما تقتضي المصالح التي تحكم مزاجه حاكمًا مطلقًا للبلاد، يضاف إلى ذلك مواقفه المتعنتة والعديدة في التلاقي غير المباشر مع رغبات دولية مستحكمة، والمتاجرة بالموقف المتصلب في إطاره النفعي والانتهازي دون تحقيق مكاسب تذكر، ولم يدّخر هذا الحاكم وسعًا في إجهاده الديبلوماسية الدولية والمراوحة بالمكان في جولاته التفاوضية، فقط ليقال عنه ما قيل، أثناء اشتراكه في محادثات السلام وتبني المواقف الرافضة، بينما كان جيشه من يقوم بحماية الحدود مع اسرائيل.

 

محمد صبحي

كاتب سوري

Whatsapp