لا شك في أن الانطلاقة العفوية للثورة السورية، والانتشار الأفقي لحراكها السلمي، وكذلك سيرورتها غير المنظمة، كافية للدلالة على انعدام أي دور حزبي في إطلاق شرارتها، ولكن السؤال حول دور الأحزاب السياسية السورية في هذه الثورة يستمد مشروعيته من حاجة الحراك الثوري إلى عملية التنظيم والتنسيق بالدرجة الأولى، وكذلك رفْد الشارع الاجتماعي الثائر بالمضامين السياسية التي تعبر عن مطالبه وتوجهاته، فضلاً عن الارتقاء التدريجي بالثورة من حالة الفوضى إلى حالة الانتظام والمأسسة. إلّا أن نتائج انتظار الشارع السوري لدور الأحزاب ظلت معلّقة، وربما كانت معلومة لدى شريحة واسعة من المواطنين، لعلْمهم المسبق عن تجفيف الحياة السياسية في سورية على مدى العقود من حكم آل الأسد الذي أوصل المجتمع السوري إلى مرحلة شبه تصحر لقيادات سياسية تمتلك مرحلة متقدمة من النضج وأرضية تنظيمية تستطيع من خلالها قيادة الحراك الثوري.
فقد استطاع حافظ الأسد قيادة انقلابه عام 1970 ببراعة جعلته يغلق الثغرات التي وقع فيها سابقوه، وامتلك إمكانية السيطرة على الشرايين الحيوية كافة التي تستمد منها الدولة وجودها الجوهري. وتفرد بعملية تحويل استخدام القوة من طور الممارسة المرتجلة التي تمليها لحظة الضرورة، إلى طور(القوْننة)، فابتدع المادة الثامنة من الدستور التي تقرّ بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع. وفي خطوة تالية عام (1972) وبقرار رئاسي أمر باستحداث ما يُدعى بـ (الجبهة الوطنية التقدمية) التي استطاع من خلالها تفريغ الأحزاب السياسية التي كانت قائمة لحينها وجعلها ملحقة بالسطلة وأخضعها لمراقبة أمنية شديدة.
فالدستور الذي صدر عام 1973 أعطى صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية الذي يشغل أيضاً منصب الأمين العام لحزب البعث إضافة إلى جمعه منصبي القائد العام للجيش والقوات المسلحة ورئاسة القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية، مما جعل تركيز السلطة بشكل هرمي حاد تلعب فيه البيروقراطية دوراً حاسماً في إلغاء الدور التنافسي التعددي.
فعلى مستوى الحزب أعاد ترتيبه بحيث تحول إلى واجهة شعبية والسلطة للأسد نفسه، وأصبح البعث بالتوسع التنظيمي الذي وصل للملايين من المنتسبين مربوط تنظيمياً بالأسد وعصبته عبر نظام تعيين من الأعلى للأسفل، قائم على واقع الولاء يدعمه جيش من الشباب المدجنين بدأ من الطلائع، لشبيبة الثورة، لاتحاد الطلبة، وتحول البعث ليكون الحزب الوحيد المخول بالنشاط السياسي في أوساط الطلبة والجيش، وأصبح الدخول في أجهزة الدولة أو التوظيف أو أي نشاط عملي يرتبط بالتحزب أو الموافقات الأمنية. وبذلك غدت الدولة السورية جمهورية الأسد بامتياز، عبر هيمنتها على كل مفاصل الدولة المجتمعية والأمنية والسياسية وكل شيء، وعملت فعلاً عبر شرعنة العنف على الشعب وممارسته لتصنع دولة الأسد الأبدية.
فالدستور الذي لم يوضع من قبل جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب، وإنما وضع من قبل حكومة استولت على الحكم بانقلاب عسكري، كان من الطبيعي أن تبرز فيه العقلية الأمنية من خلال وضع المادة الثامنة التي هي إلغاء مباشر للتعددية السياسية في المجتمع، كما أنها تعتدي على المادة الثانية التي تنص على سيادة الشعب، كما تتيح للحزب أن يجعل الدولة والمجتمع في خدمته وليس العكس؛ ما أسس لإشكالية الولاء كما أنه أسس من جهة أخرى لمصطلح “دولة البعث” ولاحقاً “سورية الأسد”. وأصبح من الطبيعي أن يسيطر الخوف على أي مواطن من العقاب حيال ممارسته لأي نشاط سياسي، ليتطور في فترة لاحقة إلى خوف من موت محتمل أو تغييب قسري لسنوات بل عقوداً من الزمن، وخاصة بعد المنعطف الحاسم الذي حصل عام 1980 نتيجة المواجهة المسلحة بين جماعة الإخوان المسلمين ونظام الأسد. لم تكن النتائج الأمنية والسياسية لحوادث العنف الدامية سنة 1980 لتطال الإخوان المسلمين وحدهم، بل إن تداعيات تلك المرحلة قد أحاطت بالسوريين جميعهم، مما أدى إلى إزدياد التغوّل الأمني في أجهزة الدولة ومؤسساتها، والانقضاض على المعارضة السياسية بأطيافها كلها والبطش بكل صوت يتجرأ على نقد السلطة، كما استحدثت سجون جديدة ومنها سجن تدمر العسكري، كما انحسر دور حزب البعث الحاكم وتحوّل إلى مؤسسة حزبية أمنية رديفة لأجهزة الاستخبارات.
كان لا بدّ لهذه الحالة من الرعب أن تنعكس انعكاساً مباشراً ليس على الحالة السياسية في البلاد فحسب، بل على الأوضاع الاجتماعية التي بدأت تتلوّث بفعل الهواجس الأمنية التي استطاعت السلطة أن تزرعها في المواطنين، وبدت هذه المخاوف هي الموجه الرئيس لسلوك كثير من الناس الذين بات معظمهم لا يتجاوز اهتمامه درجة التفكير في تأمين قوت عائلته.
وأوجد الإدمان المستمر على الشعور بالخوف لدى عامة الناس إحساساً عاماً لديهم بأنهم متهمون على الدوام، ولن يدفع عنهم شبح التهمة سوى مزيد من تقديم الولاءات بمناسبة ومن دون مناسبة، وفي موازاة ذلك ثمة ابتعاد وتحاشٍ لكل ما من شأنه المساس بالسلطة، الأمر الذي جعل العمل الحزبي المعارض ضرباً من المغامرة التي يمكن أن تودي بصاحبها إلى الهاوية، بل بات الاقتراب من العمل السياسي شبهة تستوجب العقاب الذي لا يمكن التكهن بحدوده.
حيال الأوضاع الأمنية السالفة كان ثمة خياران لا ثالث لهما أمام أحزاب المعارضة السورية، فإما أن تلوذ بالصمت وتنكفئ، وإما أن تعمل بسرية تحاشياً لبطش السلطة، وهذا ما أثر في أدائها، سواء من حيث طبيعة الأشخاص المنتمين إليها، أم من حيث منجزها الحزبي السياسي. ولذلك لم تتمكن المعارضة السورية من أن تجعل من برامجها وشعاراتها السياسية برامج حياتية تستمد مضمونها من حياة الناس ونشاطهم الاجتماعي، بل ظلت في أغلب الأحيان تدفع ثمن معارضتها للسلطة من دون أن تتمكن من تقديم البدائل الأفضل، وأوصل إلى حالة من التصحر السياسي، وانعدام إرث سياسي يمكن أن تؤسس عليه الأجيال القادمة.
ولم يتغير الوضع السياسي في التسعينيات، فقد كان وجود المعارضة شبه معدوم، لكن مع وصول بشار الأسد إلى الحكم، تلقف المجتمع السوري والنشطاء السياسيين والمثقفين ورموز مجتمعه المدني الفرصة، وبدأت تعبيرات المجتمع المدني من خلال بيانات المثقفين. وتعود أسباب تساهل السلطات مع هذه النشاطات في البداية، محاولة لتمرير انتقال السلطة بشكل سلس وهادئ عبر إعطاء شرعية داخلية وخارجية لآلية انتقال السلطة. إلا أن السلطة سرعان مافعلت الآلة الأمنية لديها وأغلقت جميع المنتديات التي حاولت أن تشكل منابر لإعادة إنعاش الحياة السياسية في البلد وإعادة المجتمع إلى التفاعل مع همومه بشكل يسمح بتشكيل برامج مطلبية بداية.
وبعد سنوات من اغتيال ربيع دمشق، عاد المثقفون الناشطون التفكير بضرورة الانتقال من المعارضة المطلبية إلى شكل من أشكال العمل السياسي المنظم، فكانت محاولة إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي الذي ضم شخصيات وطنية من مختلف الأطياف، في تشرين الأول عام 2005. ليتطور بعدها إلى تشكيل مجلس وطني ضم مجموعة من النخب المثقفة والمهتمين بالهم العام، إلا أن الآلة الأمنية كانت سريعة التفاعل مع هذه المحاولة وواجه العديدون ممن اختيروا أعضاء في المجلس الوطني محكمة أمن الدولة التي ابتدعت تهمة "النيل من هيبة الدولة" وغيرها من التهم التي انبرى العديد من المحامين الذين تفاعلوا مع منظمات حقوق الإنسان العالمية ليحاولوا كسر جدار العزلة عن المجتمع السوري وإيصال صوت المجتمع المقموع إلى المنابر العالمية في محاولة لإحداث شرخ في جدار الخوف.
ونحن إذ نعيش حالياً مرحلة كسر جدار الخوف الذي أطبق لسنوات على رقاب أبناء وطننا لا نستطيع إلا أن نقف إجلالاً لكل من ضحى بوقته وبصحته وبشبابه وبمستقبله سنوات في معتقلات السلطة الأسدية المستبدة في محاولة لشحذ همم بقية أبناء الوطن لكسر جدار الخوف وليعود المجتمع إلى السياسة لنستطيع إبداع الحلول والخطط والإستراتيجيات لمستقبل أفضل لبلدنا.
ما من شك في أن العمل السياسي ما زال يجسّد الإطار الأرقى والأنضج للتعبير عن الرأي، إذا كان يتم في مناخ صحّي وسليم، يتيح للمواطن تجسيد رغبته في المحافظة على حريته وكرامته وصون حقوقه، وتأمين حياة كريمة له، وشعوره أنه يحيا في ظل دولة، تحترمه وتتيح له التعبير عن رأيه، وتتيح له المساهمة في تقلّد المناصب والمشاركة السياسية. ومن هنا تبرز ضرورة إفساح المجال لعنصر الشباب، والاستفادة من طاقاته وحيويته، وإعادة الثقة إلى جيل الشباب بجدوى العمل السياسي، وضرورة تنحّي الشخصيات التقليدية ذات المنحى الفكري المتكلّس عن التنطع لدور القيادة الدائمة. هذا ما يجب أن نطمح إلى تحقيقه على الأقل في المناطق السورية الخارجة عن سلطة آل الأسد بعد الاستقرار القريب المتوقع لها، في محاولة لتثبيت عودة المجتمع إلى السياسة بعد غياب طويل.
د.م. محمد مروان الخطيب
كاتب وباحث سوري