أحبكم كلكم، (هكذا تجيب أمي على السؤال)، ولكنها كانت تضيف شيئاً يخصني تقولها بدمعة قديمة:
كان حبك أنت متعباً أكثر من أخوتك لأنك كنت مريضاً وضعيفاَ جداً ولأنهم قالوا لي.. لن يعيش هذا الولد.
شعرت بأنني ارتكبت إثماً لأنني أنجبتك، فتركت أخوتك الخمسة يكبرون وحدهم وتعلقت بك أنت، أخذتك معي في كل مشاويري فكنت أخاف أن أتركك وحدك. كنت أخاف أن أعود يوماً ولا أراك أمام باب البيت جالساً تبني بيوتاً من الحصى وعندما تراني تبكي، وكنت أتأمل التراب الذي بين يديك وأتذكر تراب القرى البعيدة، التراب الذي ردمناه بشجاعة فوق الأحبة، يقال يا بني أن الموت حين يأتي يجلب معه الشجاعة فتسأل نفسك: من أين اتتني كل هذه القوة أن أقبل فكرة التراب وامضي.
حياتي معك كانت من طبيب إلى طبيب وكان والدك حينها بعيداً عنا لأجلنا، كان يعمل على شاحنة اشتراها بسعر ألف شجرة زيتون وسافر بها إلى العراق.
حزنت على أشجار الزيتون المطلة على وادي (الكتخ) وحزنت على غياب والدك الطويل، لكنني كنت أفرح لأنه كان يغيب ويتألم لأجلنا، فليس سهلاً على الرجال مصارعة ذئاب الوحشة.
الرجال أطفال كبار يا بني وحين تكون اللقمة مهينة في الوطن يختار الأب أي مهنة ويغامر بكل حياته وهو مكره لا بطل.
الأب يدخل السجن لأنه يخالف القانون الذي لا يحمي أولاده، الأب يعمل خادماً في المقاهي ويقف بسنواته الخمسين أمام طاولة في المقهى ثم ينحني بكل تواضع لمجوعة من الشبان وهو يسألهم عن نوع قهوتهم، الأب يشكر على البخشيش الذي رمته على الطاولة صبية ما وغادرت.
الأب يعمل في التهريب ويغامر بسنوات حياته على أسلاك الحدود، يغيب في الظلام وهو يحمل كيساً من التبغ المهرب من تركيا ولا يفكر بشيء سوى الأولاد.
الأب يعمل في السياسة ويدخل السجن لأنه يحلم بوطن يليق بتطلعات أولاده، الأب يبكي أكثر من الأم يا بني لكنه يبكي خارج المنزل، فقط خارج المنزل ودون أن يراه أحد، وحين يعود إلى البيت يمثل دور القوي البطل الذي لا يتعب.
في عفرين قال لي الطبيب:
ابنك سيموت فهو نحيف جداً.
فحملتك وهربت إلى طبيب آخر فقال نفس الكلام فغادرت وأنا اشتم في قلبي كل تاريخ الطب، ألا يعرف المجاملة هذا الطبيب الأحمق وكيف يقول لأم هذا الكلام، فحملتك ومضيت من شيخ إلى شيخ ليكتبوا لك الأحجبة، ومن عراف إلى عراف، وجعلت الآلاف يقرؤون الفناجين عن مستقبلك، لكن أغلبهم كان يقول:
طريقه مسدود.
فصرت اتشبث بالحياة لأجلك، رأيتك تكبر وكنت أقول في روحي، إنه يكبر هذا الذي سيموت، إنه يتمدد في الروح بشكل مخيف هذا الذي أهيئ قلبي لخسارته كل يوم.
وذات مرة طرقت بابنا امرأة غجرية تبيع الحليب، أحببتها واشتريت منها، وكنت أنت في حضني فحملتك عني لكي أخرج لها النقود من جيبي، ورفعتك قليلاً في الهواء وهي تمازحك وقالت لي:
ابنك خفيف يا خالة وضعيف جداً، ابنك سيعيش طويلاً وسيكون محبوباً، لكنه سيتغرب عنك وسيبقى قلبه عليك، سينجب ثلاث بنات جميلات وسيعشق امرأة نحيفة طولها 160 أو أطول بقليل وخصرها 36، امرأة أشبه بالأساطير رأسها السماء وروحها عناقيد من ذهب.
أمي صدقت كلام الغجرية وكذبت كل ما قيل من قبل، وصارت تشتري كل يوم الحليب منها، ونسيت كل شيء، أمي صارت تضحك وترميني على البلاط وهي تمازحني وتقول:
ستعشق واحدة طولها 165 يا مجنون، أنت ستعيش... ستعيش.
قالتها الغجرية لأمي قبل أربعين عاماً في حلب.
محمد سليمان زادة
شاعر وكاتب سوري