الكتابة هي الصّورة المرئية للفكرة، وهي علم معقّد يتطلب التّفكير والتّخطيط والإنشاء والمراجعة، وبحسب ابن خلدون "هي صناعة شريفة من عداد الصّنائع الإنسانية التي تُؤَدّى بها الأغراض إلى البلد البعيد.
والكتابة فن تعبيري اتصالي خصّ الله به الإنسان دونًا عن غيره من المخلوقات، بل وجعل القلم في أول أولويات خلْقه ليكتب مقادير البشر، وطوّعه للمميزين من عباده، وقد ارتبطت الكتابة بالاستقرار والرّقي البشري، ورغم أن البعض يُرجع الكتابة إلى عهد آدم –عليه السّلام -إلا أن الأبحاث أثبتت بأن نبي الله إدريس -عليه السلام-أول من خط بالقلم وبالتّالي رُسمت في عهده قواعد التّمدن فجاءت الكتابة تتويجًا للحضارة الإنسانية آنذاك.
لذا كانت الكتابة وما زالت أداة لحفظ الوصايا والعقود والمعاهدات والاتفاقيات والهدن، ولتوثيق العلاقات الاقتصادية وتنظيمها ولحفظ حقوق البشر، قال تعالى:" وليكتب بينكم كاتب بالعدل" بالإضافة إلى نقل اللغات والرسائل السماوية وسنن الأنبياء عبر القرون وحفظها من الاندثار.
وقد كان للعرب صولات وجولات في ميدان الكتابة والنّشر فقد ذكرت الكتب أسماء الكثير من الأسواق الأدبية التي كانت بمثابة دور النّشر للأدباء والمفكرين وصنّاع القرار، حيث كانوا يعلقون نتاجهم الفكري والأدبي وحتى السّياسي على جدران الكعبة.
وقد بدأت الكتابة على ألواحٍ الطّين وجدران الكهوف لتكون وسيلة التّواصل عن بعد إلى أن وصلت إلى الحمام الزاجل واختراع نظام البريد، ورغم أن سيادة الكون كانت للهاتف في القرن العشرين والصّوت هو الملك المتوّج على العلاقات الإنسانية إلا أن الكتابة لم تتخلّ عن مكانتها في جميع المجالات وخاصة الرسميّة منها إلى أن دخل الإنسان عالم التكنلوجيا الذي دمر مفهوم الزمان والمكان واختصر القارات، وحوّل الرّسائل الورقية وسوق المال والأعمال والسّياسة إلى رسائل الكترونية باتت تضاهي الصّوت بسرعتها، تلك الرسائل التي جاءت كحلًّا مرضيًّا للشتات الذي طال العلاقات الإنسانية بسبب الحروب، ومع حلول عام 2020 واجتياح وباء "كورونا" لكوكب الأرض تحولت الزيارات العائلية وعيادات المرضى وبطاقات التهنئة والعزاء إلى رسائل الكترونية مكتوبة.
ويرى البعض أيضًا أنّ في الكتابة علاج فقد أثبتت دراسة أُجريت على مريضات بسرطان الثّدي في ولاية "تكساس" الأمريكية أن حالة المريضات النّفسية والجسدية تحسنت بعد إفراغ الشّحنات السلبية، وبث شكواهن إلى الورق.
ووجد أخصائيو التّربية بعد دراسة أجريت في جامعة برنتسون في ولاية نيوجرسي أن الذين يدوّنون الملاحظات بالقلم يستوعبون الدّرس أكثر من الذين يستخدمون الحاسوب، وأن الكتابة مجموعة من الأعصاب تعمل في آن معًا، وأن الإمساك بالقلم يساعد على اتصال شقي الدماغ ببعضهما.
أما الكتابة الأدبية فهي التّرجمان لصرخة الروح وندوبها، وغصة القلب ووجعه، ودموع المقل التي لا يراها الآخرون، وهي بحة النّاي وأنينه، وتنهيدة الوتر ونحيبه، وهي حُسن الرّبيع وبهاء العطر، وزكاء النفس وغبطة الفكر وتوَقُد العقل، وهي أجمل أنواع الكتابة وأرقاها لأنها لسان المشاعر والانفعالات والتجارب وخلاصة النّفس البشرية، والسّبيل إلى عالم ندرك فيه سحر الكلمة وهندسة العبارة وكمال الأبجدية عبر تشبيهات ومحسنات بلاغية تنقل لنا صورًا تشبهنا، وقد يدفعنا سحر القلم أحيانًا إلى البحث عن صاحبه لنغرق في حب أسلوبه ونتأثر بروعة لغته، فيكون معلّمًا نوشي بمفرداته جلساتنا وعرّابًا نقتبس منه منهجًا لأفكارنا، فيصبح جزءاً من وجداننا وقد يصل الحال بنا أحيانًا إلى العشق كقصة الأديبين الرّائعين "مي زيادة و جبران خليل جبران" التي دامت على الورق 20 عامًا بسبب استحالة اللقاء و تقطّع السبل، وهذا غسان كنفاني العاشق المدمن على مراسلة غادة السمان الشارح لتفاصيل التفاصيل رغم يقينه بأنه سيعود من سفره قبل وصول خطابه أحيانًا، ولا ننسى بشار بن برد الذي كانت كتابة الشعر بصره ونور بصيرته ورسوله إلينا.
فكم شهد الورق على نوابغ ومبدعين، وقصص حب عظيمة كقصة "الرافعي ومي" في حروف نضّدها الكاتب ليكوّن أبجدية يفوح عطرها على قرائه، وكم قصة حب كانت الكتابة شرارة البدء أو النهاية فيها، وكم حبيب بدأ يومه برسالة خطها حبيبه فحملت بين سطورها فرحة اليوم وبُشراه، وكم وجدنا توائم لأرواحنا خلف العبارات، وكم مصافحة رُتبت مفرداتها لتكون رسالة مودة أُرسلت إلى صديق، وكم مريض زُرعت البسمة على شفتيه بسبب خطابٍ خصه به أحد المقربين، وكم معلّم استمد القوة من رسالة وجّهت له من طالب أو ولي أمر أو مدير، وكم عمل قضي بسبب لباقة الأسلوب وجميل العبارة، وكم دلت الكتابة على الذكاء الاجتماعي والوظيفي من خلال سرعة الرد وسحر الرسم، وكم وثّقت أحداث وكم رسمت ملامح شخوص، وكم نقلت لنا ثقافات عربية وعالمية، وكم أضعنا من التراث الأدبي والفكري بسبب فقر التدوين في الجاهلية.
لذا أكثروا من قراءة الأدب فمن قرأه رق طبعه وازداد تحضّرًا، وحاولوا الرّسم بالكلمات ووشّوها ببيان الله، وزينوها بمفردات النّبي العربي الفصيح -ص-، وزخرفوها بأقوال الحكماء والشعراء لتزداد بهاء، ولتكونوا صنّاعًا للجمال ونبراسًا يستنير به الضّالون، ومنارةً يستهدي بها التائهون، وقنديلًا يسترشد به الباحثون، ومشكاة تحتضن كلّ نور، واستغلوا التكنلوجيا خير استغلال فالفضاء رحب ويتسع إلى المزيد من الجمال، ولا تخجلوا من كتابة العبارات الرقيقة فـ"الكلمة الطيبة كشجرة طيبة" وقد تكون حروفكم نبعًا يروي عطش الظمأى وبلسمًا يشفي ألم المرضى، وانهلوا الرحيق وهاتوا العسل، وغوصوا في أعماقكم لتحصلوا على اللؤلؤ المكنون ونضدوه ثم انثروه لينبت حُبًّا.
رنا جابي
كاتبة سورية