ترف الموت


 

بادرني بالقول:

  • ثمّة ما هو أدهى من الموت؟ 

كان يقف قبالتي، عيناه الباردتان في مواجهتي تماماً، الصوت خفيض لكنني سمعته، بدا لي واضحاً ورخيماً وموجّهاً لي، هممت بالردّ، كلماتي كانت جاهزة كما لو أنّها معدّة مسبقاً.

  • نعـ..

  • لا. لا تجب. هذا ليس سؤالاً موجهاً لك ولا لأحد غيرك. قلت لك لا تجبني فأنا أهذي، في الحقيقة الأمر كذلك، إنني أتساءل بيني وبين ذاتي بصوت قد يعلو قليلاً. هي عادة اكتسبتها مؤخراً.

دعوته إلى المقعد الهلاليّ الرابض على العشب حيث أنتظرها منذ سنين خلت، لا بأس ليكن هذا الغريب شريك هذا اللقاء الأخير، لعلّه يساعدني على البتّ فيما لم أستطع حسمه خلال لقاءاتنا السابقة. رفض الجلوس بحزم لكنّه بقي جامداً في مكانه، متشبثاً ببعض البوصات التي تشغلها قدماه الثابتتان.

تنحنح قليلاً. سعل بشدّة قبل أن يبصق في خرقة استلّها من جيب معطفه الرماديّ الداكن، بدا لي خطيباً حظي أخيراً بمنبرٍ ومستمع حين استأنف حديثه:

  • بلى، الحياة بين براثن القهر والظلم والعجز أقسى وأعظم من الموت، أن تشعر بروحك كما لو أنها حفنة من البللور المتشظي في بوتقة ساعة رملية، كلما شارفت الشظايا على النفاذ قلبتها يدٌ خشنة ذات مخالب من فولاذ. لك أن تتخيّل حنجرتك دورقاً زجاجياً مغلقاً يضيق أوسطه بشدّة حدّ الاختناق، كيف لك أن تمنح روحك حرية الخروج دفعة واحدة؟ ثمّ إنها لو خرجت فإلى أين؟ ستعود لكي تبدأ فصلاً آخر من الجحيم السرمديّ.

حين كنا هناك في الزنزانات الانفرادية المظلمة، في تلك التوابيت الواقفة من الإسمنت المشبع بالرطوبة والوحشة، لم يكن ينقصنا الإيمان بوجود حياة باذخةٍ سنعيش جمالها الطبيعي المؤنسن ذات فجر، كنّا نرى الحرية أميرة تبسم لنا وتلوّح بزندها الأبيض نحو الشرق، تعدنا بما لن يتحقق سوى بإرادتنا تلك المغيّبة في كهوف اليأس وفي أنفاق الماضي البعيد، أو الموزّعة بين جهات القتل الأربع.

صدّقني لم يداهمنا في أقبية الاعتقال الأسديّ أيّة مخاوف من المستقبل، وبالرغم من كلّ أشكال الإهانة وصنوف التعذيب كالصلب والسلخ وتكسير العظام والحرق.. إلاّ أننا لم نكن لنشعر بالخيبة والإحباط ولا باليأس، كانت جذورنا واثقة من وصول الشمس، وكان لدينا ما يكفي من زاد الحلم ومن الإيمان الراسخ بهزيمة الموت.

سأسرد لك حكاية بسيطة عن ذلك الصرصار الأشقر، كان يتحرّك كما يحلو له في كل الاتجاهات، أراه من خلال الضوء الواهن للدهليز الخارجيّ، يدخل عبر فرجة تحتيّة للباب الحديديّ، يقترب بلا حذرٍ من جسدي المدمّى، يلامس أصابع قدميّ المقرّحتين، يمشي دون خشية فوق أطرافي المتسخة العارية، ينصرف عني ليداعب بمجسّاته الطويلة حبات السكّر المتناثرة على أرضيّة الزنزانة، يفردها، يجمّعها في أسراب ويعود مرّة أخرى ليذرّرها، كما لو أنّه يجد في الفوضى التي يحدثها متسعاً لترتيب فوضاه، وتعبيراً عن السعادة باللعب والشقاوة بعيداً عن إرهاب عالمٍ لا يسمح له بمجرّد العيش..

لم يخامرني حينها أيّ شعورٍ بالانزعاج أو القرف، ربما على العكس من ذلك كنت أُسرّ لزياراته المتكرّرة، وأغبطه على حرية حقيقية يمارسها دون خوف من الدعس أو السحق، لقد بات محرّضاً لي على التخيّل والتفكير، ودافعاً للتشبث بالحياة وممكناتها الجميلة، لقد كان صديقي ومؤنسي الوحيد في مملكة الجلاّدين والوحوش الآدميّة. 

الآن أخشى أنني سأفقد ذاك الإيمان، لقد بقي الصرصار ملكاً متوّجاً في متاهات المجارير والمعتقلات، أمّا نحن السوريين فنتساءل بعد سنين تجاوزت التسع العجاف عن الجدوى من كلّ شيء في غابات هذا العالم ومستنقعاته النتنة، ونسأل أنفسنا دون تعجّب: 

  • هل ثمّة ما هو أدهى من الموت، أم أنّ الموت لمن يكابد القهر والظلم والألم هو ترف لا يطال؟؟ 

لا. أرجوك لا تُجبْ.

Whatsapp