حرية



 

فما كان عليها إلاّ أن تضع رأسه الصغير تحت ثوبها وتركض بينما هو يركلها بقدميه الصغيرتين لتطلق سراحه. 

القصة بدأت حين عبرت المظاهرة شارع بيتهم وكان الصبي البالغ من العمر عشرة سنوات يلعب تحت المنزل، وحين اقتربت الحشود منه توقف عن اللعب وراح يراقبهم بفضول الأطفال، ثم راح يقترب بهدوء ليدخل بينهم وصار يقلّدهم ويردد مثلهم:

  • حرية .... حرية سوريا بدها حرية.

أمّه التي رأته من شرفة العمارة وهو ينخرط في المظاهرة لا تتذكر كيف نزلت سلالم الطوابق الأربع دون أن تمس قدماها الأرض، أمسكت به من يده التي كانت تهتف في الهواء وسرعان ما وضعت يدها على فمه الصغير وسحبته وهو يصرخ ويتخبّط كي يهرب منها، ليعود إلى ذلك المشهد العظيم وتلك الكلمة دون أن يعرف شيئاً عن معناها، إلاّ أن أمّه تدرك تماماً معنى تلك الكلمة ومذاقها. 

تعبت وهي تسحبه من يده وهو يتكوّم على الأرض ويصرخ:

  • بدّي حرية.. بدي حرية.

حين دخلا بهو العمارة استسلم الطفل لأمه التي حملته وهي توّبخه ألا يذكر تلك الكلمة على لسانه، لكن عالم الأطفال عالمٌ عنيد مبني على الاكتشاف، على أن تحرق أصابعك لتتعرف على النار.

رمته أمه في الغرفة لكنه يريد أن يفهم تلك الكلمة ولماذا كان الآلاف يرددونها في الشارع؟؟، ولماذا ضربته أمّه حين ردّدها مثلهم؟؟، ولم يقتنع بأجوبة أمّه حين قالت له بعد أن رمتهُ بأنه عليه أن ينسى هذه الكلمة:

  • (إذا بتحب أمك لا تلفظ هالكلمة مرة تانية)

 لم يقتنع هذا الصغير، بدأت في رأسه شرارة الفضول تكبر فراح يبحث عن تلك الكلمة، ضربته أمه مرة أخرى لأنه راح يسأل الجيران عن معنى الكلمة (حرّية) مما دفع الجيران إلى حمله بخوف كبير، وكأنهم يحملون قنبلة ستأتي بحتفهم جميعاً، ورموه في حضن أمه وهم يعضّون على شفاههم خوفاً، ويلحّون عليها بأن تربطه في المنزل، فراح الصغير يبحث مرة أخرى وبفضول أقوى عن تلك الكلمة، ما هذه الكلمة التي كان الجميع يردّدها ولماذا جاءت الجيوش والطائرات؟ تلك الكلمة التي رآها في الكتب المدرسية لكنه لم يفهم معناها أو أي  تفسير لها ، الكلمة التي كانوا يرددونها كل صباح أثناء تحية العلم، ثم رآها في أهداف الحزب الحاكم ولكنه أيضاً لم يفهم معناها، فأستغفل أخته النائمة وراح يكتب في هاتفها الخلوي تلك الكلمة ويبحث عنها في غوغل وما إن كتب في غوغل تلك الكلمة (حرية) حتى ظهرت أولى صوّر الدم، ثم تابع البحث فظهرت صور القادة العرب والجيوش العربية، ثم تابع البحث فظهرت صور فتيات عاريات ورجال بلُحى طويلة،  ثم تابع البحث فظهرت صورة مشعل تمّو، حمزة الخطيب، غياث مطر، وظهرت صور مي سكاف ورزان زيتونة، وظهرت حنجرة القاشوش، ومن ثم ظهرت آلاف الصور، أطفال، نساء، شيوخ، مدن تحوّلت إلى جزر، أشباح، فتابع البحث ظهرت صوّر السجون والمعتقلات، ظهرت خيولٌ وسيوف وفتوحات وإمبراطوريات، وظهرت أسماء قبائل وشعوب، السوريون البوسنيون الألبان الكوبيون المصريون الليبيون، فتابع البحث فظهرت صور البراميل وصواريخ سكود، ظهرت صور مانديلا والأم تيريزا، غيفارا ومارتن لوثر كينغ، غارسيا لوركا وأدريان متشيل ، أحمد بن بلة ويوسف العظمة، وتابع الطفل بحثه، فظهرت صور الخبز والطوابير، المخيّمات  المجاعات الثلوج والفيضانات، ثم تابع البحث عن هذه الكلمة الرهيبة فظهرت له فيديوهات وما إن فتحها حتى رأى الرؤوس تقطع والنساء تُسبى وظهر البترول  ثم تابع وظهر أسم سوريا، رأى المقابر تبتلع المدن ورأى الناس ينزحون أفواجاً أفواجاً، وظهرت عبارات وعبارات: 

(- بابا شيلني 

-  بدّي خبّر الله بكل شي 

- أنا انسان مو حيوان) 

ثم تابع البحث وظهرت الأغاني: 

  • (يا حيف، حانن للحرية حانن، ولو ترجع) 

 تشوّشت أفكار الصبي وراح يصرخ بأعلى صوته:

  • يا حرية أريد أن أراكِ.. أخرجي يا حرية.. أخرجي إلى الضوء.. 

فأنقضّت عليه أخته وأمه والجيران وهم يصرخون به أن يخرس، لكنه هذه المرة لم يخف ولم يأبه لهم، ركض بكل ما يملك من قوة وطاقة ووقف بوجه العسكر وهو يصرخ:

  • حرية.


 

محمد سليمان زادة

شاعر وكاتب سوري

Whatsapp