هل يرحل الكردستاني من سورية؟        


 

كانت أبرز أهداف الثورة السورية منذ بداية إنطلاقتها السلمية بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وإقرار مبدأ المواطنة المتساوية حقاً، لكننا شهدنا في الفترات اللاحقة الخطاب الطائفي وخطاب الكراهية القومية، الخطاب الذي يضع سورية والسوريين في محاور إقليمية أو محاور دينية، اللقاءات والاجتماعات على أساس طائفي أو عشائري، وغيرها. تحوّلت بموجبه كلمة "الثورة" عند بعضنا إلى أقنوم مقدس تجري باسمها موبقات كثيرة، وأحياناً فهمنا الخاطئ لها يضعها في تضادٍ مع بناء الدولة الوطنية الحديثة التي كان يفترض أن تعلو ولا يُعلى عليها شيء.

لعل خطابات الكراهية تمثل في عملية تشكيل (وحدات حماية الشعب) التي برزت في بداية التحول للعمل المسلح والتي تزعمها متحدرون من حزب العمال الكردستاني والذين أسسوا في عام 2003 حزب الإتحاد الديمقراطي، ويعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الحامل الفاعل للمشروع الكردي في سورية، حيث قام في بداية الثورة بتأسيس مجلس شعب غرب كردستان في كانون الأول/ديسمبر 2011 وتأسيس وحدات حماية الشعب في آذار/مارس 2012 بقيادة شخصيات عسكرية من جبال قنديل، وفي ذات العام تم تأسيس قوات الأسايش. ولاحقاً، تشكيل الإدارة الذاتية في شمال سورية في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، والتي تم عبرها تقسيم المناطق الخاضعة لسيطرته إلى ثلاث مقاطعات وهي الجزيرة، وعين عرب وعفرين. ثم تلاها تأسيس " قسد" في تشرين الأول/أكتوبر 2015، بدعم كامل من الولايات المتّحدة، وفي آذار/مارس 2016 تم تشكيل فدرالية روج آفا، وأخيراً تشكلت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سورية في أيلول/ سبتمبر 2018، كبديل عن الفدرالية، وهي عبارة عن إدارة منسّقة وجامعة لسبع إدارات ومناطق خاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية وهي (الجزيرة، عين العرب، منبج، الرقة، دير الزور، الطبقة، بالإضافة لتمثيل عفرين).

وبالرغم من محاولات الإنكار العديدة لتبعية حزب الإتحاد الديمقراطي لقيادات جبل قنديل، فإن قائد “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي أقر أخيراً، بوجود مقاتلين تابعين لحزب “العمال الكردستاني” (PKK)، في مناطق شمال شرقي سورية، قدموا للقتال في المعارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. قُتل منهم المئات في المعارك، وغادر بعضهم، وبقي آخرون وسعى العديد منهم إلى حياة مدنية. ويُشار من قبل السكان المحليين إلى مقاتلي حزب “العمال الكردستاني” الموجودين في سورية محلياً باسم “الكوادر” وهم يمثلون هيكل "سلطة الظل” مع سلطة اتخاذ القرار النهائية خلف الكيانات الحاكمة المحلية وخارجها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمن، مع التأكيد على قدرٍ كبير من السرية يحيط بهوية “الكوادر” ودورهم.

تتضح الصورة أكثر إذا عرفنا أن من يقود شمال شرق سورية سياسياً وخدمياً وعسكرياً وأمنياً هم أربعة من أعضاء اللجنة التنفيذية في منظومة المجتمع الكردستاني، والتي يقودها عمليًا جمال باييك، وريث عبداللـه أوجلان، والقيادات الأربعة موجودون على الدوام في سورية، كصلة وصل بين القيادة في جبال قنديل، وبقية الواجهات السياسية والعسكرية والخدمية والأمنية شمال شرقي سورية، والتدخل من قبلهم يكون في أبسط القرارات.

من هنا تتضح صعوبة وصول مبادرة الحوار الكردي- الكردي، بين حزب “الاتحاد الديمقراطي” الذي يشكل نواة “الإدارة الذاتية”، والمدعوم أميركياً، و” المجلس الوطني الكردي” المقرب من أنقرة وكردستان العراق، والمنضوي في هيئات المعارضة السورية، وإمكانية توصل الطرفان إلى اتفاق دائم. فالمباحثات الكردية التي انطلقت في نيسان/ابريل الماضي برعاية منسقة الخارجية الأميركية زهرة بيلّلي، تتمحور الخلافات العالقة فيها حول خمس نقاط رئيسية، لعل أعقدها المتعلقة بالتداخلات الكردستانية التي تشكل عقبة في إنجاح المباحثات المتعثرة، حيث يتهم قادة المجلس الوطني، حزب العمال الكردستاني بفرض هيمنته على «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«قوات قسد» و«الوحدات الكردية»، وأنه يعمل ضد أي شراكة سياسية قد تلغي مستقبلاً دوره داخل المناطق السورية.

بإعلان حزب العمال الكردستاني مسؤوليته عن الهجوم الذي استهدف خط تصدير النفط من إقليم كردستان العراق إلى تركيا الذي وقع مطلع الشهر الماضي، فإن حزب العمال الكردستاني يعبّر بوضوح عن رفضه استمرار الحوار الكردي-الكردي في سورية الذي يجري برعاية من الولايات المتحدة ورئاسة الإقليم. إضافة إلى كون إعلام الحزب قد بدأ بشن هجوم إعلامي على أسرة البرزاني الحاكمة في شمال العراق والتي تحظى باحترام لدى الكثيرين من الأكراد الذين أزعجهم ذلك بل وحتى أثار حفيظة قسم من العماليين، ما أكد الانقسام داخل هذا الحزب حيال المفاوضات بين حزب الاتحاد الذي يعتبر فرع العمال الكردستاني في سورية، وبين مكونات المجلس الوطني الكردي، خاصة مع وصول المباحثات إلى النقطة المركزية التي يتوقف عليها فشل أو نجاح الحوار. هذه النقطة هي ملف العلاقة بين حزب الاتحاد وحزب العمال وضرورة فك الارتباط بينهما وإخراج قادة ومقاتلي الحزب التركي من سورية، وهو ملف معقد جداً بطبيعة الحال، خاصة بالنسبة لـ "الاتحاد" الذي يقود الإدارة الذاتية في مناطق شرق الفرات، والذي يشهد انقساماً هو الآخر حيال هذا الملف.

من تعقيدات ملف حزب العمال الكردستاني يمكن فهم دعوة مظلوم عبدي، وإلهام أحمد، تركيا والائتلاف السوري إلى الحوار، فمع الأخذ بالاعتبار أن مظلوم عبدي وإلهام أحمد لهما مكانتهما في الأوساط الكردية، لكنهما في حسابات منظومة الاتحاد الديمقراطي هم مجرد قادة في الصف الثالث، ويجب الأخذ بالاعتبار ما تردد في الآونة الأخيرة بشأن إزاحة واستبدال مظلوم عبدي من قيادة قوات سورية الديمقراطية، بالقيادي محمود برخودان، وهو قائد عسكري جيد، لكنه شديد الولاء لجميل باييك، وهذا التغيير إذا ما حصل فهو يدخل في إطار استبدال من صار ولاؤه مشكوكاً فيه برجل ولاؤه نقياً للمنظومة القابعة في جبال قنديل، وهذا مدخل أول للقول إن دعوة مظلوم عبدي وإلهام أحمد للحوار، هي رسالة إلى الداخل الكردي وتحديداً إلى جمال باييك، في جبال قنديل. بعبارة أدق، ربما يمكن القول إن معركة خفية تجري في كواليس القيادة الكردية في شمال شرقي سورية، يقودها من جهة مظلوم عبدي، ومعه قادة من الكرد السوريين الأوجلانيين الوازنين، وفي الطرف الآخر جمال باييك وأزلامه في سورية وتركيا.

صراع مظلوم عبدي الداخلي رهن بالموقف الأميركي، فإن تخلت عنه واشنطن، عاد كل شيء إلى نقطة الصفر، وجعلت أكراد سورية خارج الملعب حتى على مستوى مقعد في اللجنة الدستورية، وجعلت التفاهم الأميركي-التركي شبه مستحيل، وسهّلت لاحقاً على نظام الأسد عودته إلى هناك بالقوة، أو استعادته موارد يحتاجها في حصار خانق بفعل قانون قيصر، من خلال نفط وماء وقمح وقطن الجزيرة السورية. لكن إن صدقت واشنطن وعدها، فإنه بعد دعم موقف مظلوم عبدي وما يمثله، سيكون عليها إقناع أنقرة بتسوية تُبعد فيها خصمها العتيق عن حدودها الجنوبية وتعيده مرة أخرى إلى جبال قنديل، إضافة إلى إعطائها الضوء الأخضر للائتلاف السوري للجلوس إلى طاولة المفاوضات، ودفع المجلس الوطني الكردي إلى تسريع قيام مصالحة أو اتفاق كردي-كردي، ليكونا كياناً كردياً واحداً في إطار التسوية السورية الشاملة، وهذه المرحلة إن بدأت ستفرض تنازلات كبرى من جميع الأطراف، وعلى الصعيد الكردي، سيكون قطع العلاقات مع جبال قنديل، وإخراج المقاتلين الأجانب في مقدمة التنازلات المطلوبة.

محاولة انتزاع أكراد سورية قرارهم من جبال قنديل وقادته الذين حولوا سورية إلى ساحة لتصفية الحسابات مع تركيا، تهدف إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المكتسبات، وحماية ما يجب حمايته. ذلك لأن خسارة عفرين ولاحقاً المناطق الممتدة بين رأس العين وتل أبيض، واستحالة عودتهما إلا في إطار تسويات إقليمية ودولية، أضعف موقف القيادة الكردية أمام حاضنتها، وعليه، فإن التقارب مع أنقرة إما يقرّب أكراد سورية من تسوية تعيدهم إلى إدارة المناطق التي خسروها أو تجنبهم على الأقل خسارة جديدة وخصوصاً في ظل الحديث المتزايد عن عملية عسكرية تركية جديدة تنطلق من الدرباسية. إضافة لكون المفاوضات المباشرة مع تركيا، تُسقط من يد موسكو إحدى أهم أوراقها التي جعلت آلياتها تسير في مناطق لم تكن لتحلم فيها، من المالكية إلى عين العرب، وهي رسالة تعيد خلط أوراق القوة والتوازنات، في إطار الانضمام إلى تسوية شاملة إن وجدت دعماً دولياً، يعرف مظلوم عبدي وسواه، أن الخاسر الأكبر فيها سيكون بشار الأسد، ومن ورائه روسيا.

وإن كان مظلوم عبدي أو غيره من القيادات الكردية الحالية يحاول الخروج من تحت عباءة "العمال الكردستاني" ولعب دور وطني سوري، فإنه حرياً به أن يعلم بأن التعويل على الولايات المتحدة أو غيرها من أجل إيجاد مخرج لهذه الورطة يبقى على أهميته عاملاً ثانوياً، أما العامل الرئيسي في حسم ملف التخلص من هيمنة ووجود قادة وكوادر حزب العمال الرافضين للتخلي عن السلاح والفكر الراديكالي فهو التوافق البيني بين القوى الكردية وبين هذه القوى وممثلي المكونات الأخرى من سكان المنطقة على مشروع وطني وتنموي شامل، لن تكون المفاوضات بين حزب الاتحاد والمجلس الوطني الكردي، سوى لبنته الأساسية.

كما يجب التأكيد على صياغات أكثر وطنية تعيد للثورة هدفها الأساسي وهو بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، وهذا لا يمكن فهمه مع صيغة أنّ «الشعب الكرديّ يعيش على أرضه التاريخية» هو مفهوم حديث جداً حتى في مفاهيم الحركة الكرديّة السورية، انتشر في الوسط الكرديّ السوريّ منذ ثلاثة عقود، وهي تثير قلقاً وحساسية كبرى لدى مكونات الشعب السوري الأخرى وخاصة في منطقة الجزيرة، التي تقطنها أغلبية عربية، ثم إن هذه المسألة ذات طابع تاريخي وتحتاج لدراسة علمية موضوعية بعيداً عن عقلية فرض سياسة الأمر الواقع والاصطياد بالماء العكر.

 

 

د.م. محمد مروان الخطيب

كاتب وباحث سوري

Whatsapp