أواخر الستينات من القرن الماضي، كدت أطير من الفرح عندما حصلت على أول عمل في اختصاصي الهندسي، كان ذلك في ألمانيا الغربية حسب تسميتها في ذلك الزمن وفي مدينة هانوفر، أيامها كانت فرص الحصول على عمل سهلة حيث السوق الأوربية المشتركة مازالت مشروعاً على الورق، كان المصنع الذي عملت فيه ينتج الضواغط الخاصة بوحدات التبريد، ويتألف المصنع من عشرة خطوط انتاجية متوازية كل خط إنتاجي بطول ٥٠ متر تقريباً، يقف أمامه حوالي ٣٠ عامل وفني ومهندس على أبعاد متساوية من بعضهم البعض، يتخصص كل واحد منهم بأداء عمل معين، بينما أجزاء الضاغط تتكامل وهي تمر أمامهم على السير الجلدي بسرعة مدروسة.
كان عملي في نهاية أحد خطوط الإنتاج مع أحد الفنيين وهي أهم وأخطر حلقة في سلسلة الإنتاج للتأكد من أن المنتج في حالته النهائية خالٍ من العيوب وذلك بفحصه بتجهيزات كهربائية خاصة وإذا ثبت فشل أحد الضواغط يوضع جانباً مع تقرير يبين العيب فيه أما بقية الضواغط فتنتقل إلى صناديق وتحزم مع نشراتها الفنية وشهادة الضمان وتنقل بالروافع إلى المستودعات ثم الى التصدير.
كنت في تلك الأيام في أواسط العشرينات من العمر مندفعاً متعطشاً لاكتساب المعرفة فخوراً بأني سأعود إلى وطني سورية مع شباب آخرين من اختصاصات مختلفة لنبني الوطن، فسورية غنية بكفاءاتها المتحمسة لجعل سورية قلعة التصنيع في المنطقة وكانت فعلاً مؤهلة لذلك.
ثم دارت الأيام، حتى جاء دور أبو الانقلابات وأمه في عام ١٩٧٠ فسُخرت طاقات الوطن من أجل المحافظة على نظام الاغتصاب وليس الانقلاب بقيادة المتآمر على الوطن حافظ الأسد، فتحولت خطط التكنولوجيا الصناعية الواعدة في وطني إلى تكنولوجيا ارهابية وانتشرت هذه المصانع في أربعة عشر محافظة فتقدمنا على الغرب، فأقام النظام مصنعاً تكنولوجياً إرهابياً ليس في كل مدينة فحسب بل وفي كل بلدة وقرية أيضاً.
شباب الوطن المتحمس للبناء جلسوا على الرصيف وتولى قيادة التصنيع علماء تخصصوا في كوريا الشمالية في تكنولوجيا المخابرات والبراميل والغازات السامة، فتم نشر هذه المصانع في كل مفاصل الوطن وتم تدريب شبيحة خضعوا لدورات فنية عالية في كل ما يخص العالم السفلي، ثم وزعت عليهم أوسمة التقدير ونالوا شهادة عامل فني بدرجة شبيح وهي أرقى درجة فنية تؤهلها عصابة النظام، وتم الاحتفال في عهد الوريث المجرم بتخريج عشرات الألوف من هؤلاء الفنيين، وتم توزيعهم على المصانع الارهابية في المحافظات فنافسوا الغرب بخطوط الإنتاج على الطريقة الحديثة، واصطف أمام كل خط إنتاجي ثلاثين شبيحاً، اقصد فنيا ، فيبدأ الخط الإنتاجي ببرميل أنيق فارغ فيضع الفني الأول البرميل الفارغ على السير الجلدي ثم يتحرك البرميل فوق السير، فيضع الثاني فيه المواد الشديدة الانفجار ويضع الثالث فيه المسامير وقطع الزجاج ويضع الرابع فيه الفتيل ويقوم الخامس بوزن البرميل ليكون ٨٠٠ كغ بالتمام والكمال فإن كان وزنه انقص ب ١٠٠ غرام أعيد إلى الفني الثاني لتدارك النقص، ويقوم السادس بدهان البرميل من الخارج ورسم صور ميكي ماوس عليه لتشجيع الأطفال على الاقتراب منه وهو يتطاير بالجو، أما الفني الأخير فيضع في البرميل كتاب أنيق يتضمن حكايات بصور ملونة للأطفال مع إهداء لكل أم يقول: - - هدية مجانية لأطفالنا حبايبنا ..رجاءً أيتها الأم أن تقرأي لأطفالك ما تيسر من الحكايات عند النوم حتى نضمن لهم نوماً هانئاً.
يغلق البرميل بأناقة ويكتب عليه مواد غذائية هدية القائد للشعب السوري ثم يرسل إلى مطارات الهليكوبتر لتصديره للشعب.
هذه هي الصناعة الأسدية الرائجة لدى هذه العصابة، وهي صنف أول ومضمونة إيرانياً وروسياً وكورياً، ومن زبائنها حزب العمال الكردستاني وحسن نصر الله والوزير اللبناني ميشيل سماحة لإيداعها في البطريركية المارونية ودار الإفتاء بأمر من القائد لإيقاع الفتن.
الصناعة الأسدية تفوقت بجدارة على كل الصناعات العالمية مجتمعة وحصلت على شهادة الإيزو ٢٤٥٠، فلماذا نشتكي من عدم تشجيع النظام للصناعات السورية؟
بقي لدي سؤال جدي يُطرح دائماً للنقاش يقول السؤال: إذا تغير النظام هل يوجد لدى الشعب كوادر لقيادة سورية؟
أجيب: في داخل سورية وخارجها مئات الألوف من كافة الاختصاصات المتميزة جاهزة لقيادة الوطن، يقابلها ثمانين ألف شبيح متمركزين أمام البيوت التي هجرها أصحابها خوفاً من براميل الأسد لسرقة ما فيها.
م. هشام نجار
كاتب سوري