سورية بين عهدين


عصفت بسورية عام 1986 أزمة اقتصادية خطيرة، بعد الأزمة السياسية التي تلت مرض حافظ الاسد ودخوله غرفة العناية المشددة في إحدى مشافي دمشق، والتي كان من نتيجتها إبعاد رفعت الأسد شقيق الرئيس وقائد ما يسمى بسرايا الدفاع المسؤولة عن حماية النظام ورئيسه، مع ما حمله من عملة صعبة أفرغت البنك المركزي وأدت إلى هذه الأزمة الخطيرة ،إذ ارتفع سعر صرف الدولار من خمس ليرات سورية إلى حوالي 60 ليرة ليستقر بعدها على سعر 47 ليرة للدولار الواحد، ولم يكن ما حمله شقيق الرئيس هو السبب الوحيد لهذه الأزمة فقد كانت حيتان الفساد قد تغولت على أموال الدولة ومشاريعها وثروات البلد بفرضها إتاوات على كل شيء فأصبح عندنا من المسؤولين الكبار من يطلق عليه رجل الخمسة بالمائة " محمد حيدر نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية السابق" ورجل العشرة بالمائة " محمد مخلوف مدير الريجة ثم مدير المصرف العقاري ورجل صفقات النفط وشريك شركات النفط"

    بعد حرب 6تشرين أول/ أكتوبر 1973، تدفقت أموال دول النفط على سورية بغرض دعم المجهود الحربي فتلقفتها أيادي المسؤولين الفاسدين فكانت المشاريع الوهمية وجلب المعامل المنسقة في بلادها والتي لا تساهم بأي تنمية، وبالعكس كانت تشكل عبئا على الاقتصاد الزراعي والصناعي. ومع انهيار سعر الصرف توقفت الكثير من المعامل والمشاريع الزراعية ورفعت الدولة الدعم عن المستلزمات الزراعية والصناعية ولم توجد القوانين التي تنظم تأمين هذه المستلزمات لتترك الفوضى هي السائدة في السوق، وأصبح التهريب هو المصدر الرئيسي لكل تلك المستلزمات، وكمثال عن أسعار تلك الفترة، كانت مؤسسة الأعلاف تسلم كسبة فول الصويا المستوردة بمبلغ 1200 ل .س للطن الواحد لمربي الدواجن وبعد انسحاب المؤسسة من تأمين المادة أصبح سعر الطن الواحد بحدود عشرين ألف ليرة، وطبعًا كانت السيارات السورية  تجلب هذه المواد من لبنان حيث أصبح قادة الفرق والألوية هم تجار السوق السوداء والتهريب في هذه المرحلة.

    فُقدت غالبية المواد الاستهلاكية من السوق السورية وخاصة المواد الغذائية الضرورية وحتى الأدوية وحليب الأطفال، وأصبح الاعتماد الرئيسي على التهريب الذي تضاعفت أسعاره بشكل غير مسبوق بشكل يعجز غالبية السكان عن تأمين مستلزماتهم الضرورية بدخولهم التي تراجعت إلى 10 بالمائة من قيمتها قبل الأزمة، مما أدى إلى تآكل الطبقة الوسطى التي تعتمد على الدخل المحدود، وأخد الشكل الجديد للمجتمع السوري يتوضح في طبقتين: طبقة فقيرة  وطبقة غنية تعيش على فسادها وامتيازاتها، وعندما بدأت الحكومة تسن القوانين لتجاوز الوضع جاءت قوانينها وأنظمتها لصالح هذا التمايز الطبقي ولتدعم طبقة التجار والمستثمرين فأصبحت هناك أسعار متعددة للدولار منها الموازي، ودولار الدواء، ودولار مستلزمات الإنتاج، ودولار التصدي، وكلها كانت تزيد غنى الغني وفقر الفقير، خصوصًا أن دولة البعث منعت النضال المطلبي وحولته إلى نضال سياسي ضد الصهيونية والإمبريالية، فمنعت عن النقابات بقوانين جائرة المطالبة بأية حقوق لمنتسبيها وفرضت أزلامها في انتخابات شكلية محسومة سلفًاـ

    استمرت حالة التخبط حتى جاء عام 1990 وصدر قانون الاستثمار الذي أسس لمرحلة جديدة من الانفتاح كانت بدون قيود وليتيح لطبقة الفاسدين والناهبين قوننة سرقاتهم بمشاريع محمية بالقانون، وأصبحنا نشاهد شركات السيارات السياحية والسيارات المخصصة لنقل البضائع والأفراد في كل مكان حيث سمح للتجار والمستثمرين إدخالها بدون جمارك  وتأجيرها للشركات والأفراد أو استثمارها في مشاريعهم الخاصة، وانتشرت الصناعات الخفيفة التي اعتمدت على رخص الاستيراد التي تعطى للمقربين والذين كانت تصل  للحرفيين وأصحاب المهن لقاء منافع متبادلة.

    جاء عام 2000 وانتقل الحكم إلى الوريث بعد وفاة الأب وهنا اخترع الحكم الجديد بطاقمه الاقتصادي الآتي من المؤسسات المالية والمصرفية الدولية، اخترع اقتصاد السوق الاجتماعي على خطى  اقتصاد السوق الاشتراكي الذي ابتدعه زعيم الصين دينغ سياو بنغ والذي أسس لنهضة الصين ووضعها بين العمالقة، وكما قال الكاتب الأميركي المختص بقضايا الشرق الأوسط توماس فريدمان في تعليقه على الموضوع: أن الحزب الشيوعي الصيني خاطب الصينيين قائلاً سأعطيكم الرفاهية واتركوا لي الحكم والسياسة أما البعث فماذا سيعطي شعبه إذا ترك له الحكم والسياسة. لا شيء سوى الجوع والقهر، وهذا ما حصل وما نعيشه هذه الأيام ففي عهد الأب كان الفساد والنهب والإفقار، أما في عهد الابن فنحن نعيش الجوع والقهر والقتل والتشريد.

    يقال إن الرئيس السابق في حوار مع أحد ضيوفه السوريين قال للضيف: إذا اضطررت لترك سورية فسأتركها كما استلمتها 4 ملايين جائع، وها هي وصيته تنفذ الآن.

 

 

محمد عمر كرداس

كاتب سوري

Whatsapp