تعاني معظم دول العالم من ظاهرة الجریمة المنظمة بصفة عامة ، وخاصة التي تتمحور أغلبها على تجارة المخدرات وتجارة السلاح حتى تصل إلى خلق وتفشي فساد هنا وهناك ضمن مؤسسات الدول، ويبقى الأمر الأهم من تلك الظواهر عملية غسيل أو تبييض العملة التي يجنونها من تلك الجرائم بشتى أنواعها، حيث تعتبر جريمة غسل الأموال الأكثر خطورة من بينهم بامتياز، لكونها تتوغل داخل الكيان الإداري للدول ولا تنجو منها دولة نامية أو متطورة حيث تعتبر الخطوة الأخيرة (غسل الأموال) من كل عملياتهم غير المشروعة، كونها تتمركز بأسلوب تعيد به هذه الأموال إلى العربة الاقتصادية بصفة شرعية خالية من أي شائبة كانت أو رائحة كريهة قد تبعد عنها المستثمر، وخاصة تلك التي تنتج عن تجارة المخدرات والفساد بشتى أشكاله ومهما اختلفت رايات الدول التي يأتي منها، وبلا شك فإن أفضل وسيلة للتبييض لتلك الأموال هي المصارف وما يدور بفلكها من مؤسسات مالية حيث تبين أن المصارف بخدماتها المتنوعة قادرة على الغسيل بشكل يصعب تتبع أثره مما دفع الدول إلى السعي لإيجاد أفضل السبل للوقوف أمام تلك العمليات. والسؤال هل يمكن أن نحول مؤسسات مالية إلى رجال ومؤسسات مكافحة الجريمة وغسيل الأموال ومن لديه اطلاع على طبيعة عمل المصارف سيفهم أن ذلك سيكون من المستحيلات وليومنا هذا ما زالت هناك مصارف تعتبر المنصات الرئيسة بهذه الأعمال، وأكبر مثال على تلك الأعمال التي تمر من بين أيادي مدراء المصارف بحد ذاتهم دون أن يعرفوا ما إذا كان هناك عملية غسيل بين أعمالهم، وأول فكرة تأتي في ذهني هي عملية اعتماد مصرفي يقوم به زبون عادي لشراء بضائع أيًا كانت من مصدر بدولة ما، وبالاتفاق يتم استصدار الوثائق المطلوبة وفق العرف والقانون لتلك البضائع ( فاتورة شهادة منشأ قائمة مفردات فاتورة وبوليصة شحن وتأمين) وكوننا نتحدث عن فساد كل هذه الوثائق يمكن استصدارها بسهولة ويبقى فقط العبور الجمركي ببلد المنشأ وبلد الوصول وبكل سهولة يقوم المصدر بتسليم البضاعة للباخرة أو شركة الشحن على الباخرة ويستلم تلك الوثيقة ويرسلها مع باقي الوثائق للمصرف ليتم التأكد من صحتها علمًا أن المصرف لا دور له وليس عمله التحقق من صحة وطبيعة البضائع لا عدداً ولا مواصفةً ولا طبيعتها لتصل تلك الوثائق إلى مصرف المشتري ليتم بموجبها تحويل القيمة المتفق عليها مباشرة وبذلك تدخل العملة نظيفة للبائع تحت مسمى صفقة تجارية ولكن بالحقيقة هذه الأموال بالأساس هي له ويريد إعادتها للبلاد نظيفة حتى لو كلفته حصة لابأس بها بعد بيع البضاعة وتسديد كل الأكلاف الناتجة كون تلك العملة ستدخل بدورة استثمارية جديدة قابلة للتداول في النشاطات العامة القانونية .
أسئلة عديدة وعلامات استفهام تحيط بهذا النشاط فما بالكم إذا كانت الدولة شريكة بذلك أو بصيغة أخرى متمكنين بالدولة وما أقصده رجال الظل وتماسيح السوق بشتى الميادين، حينها لا مكتب مكافحة ولا جمارك ولا هيئة رقابة مصرفية قادرة على الحد من هذه الأنشطة، مما سهل لهم التهرب الضريبي والرسوم الجمركية والتحكم بالأسواق كم يحلو لهم وبذلك غطوا كل الأكلاف الجانبية لتسهيل عملهم.
أما إذا عدنا للمجتمع الدولي ونشاطاته لمكافحة تلك الظواهر من جريمة أو غسيل أموال فكانت أول خطوة هي ضرب الوكر الأساسي وهو السرية المصرفية التي يحتمي خلفها كبار هؤلاء الثعالب واستطاع المجتمع الدولي استصدار قانون معاقبة الدول التي لا تفصح عن أصحاب الحسابات دون الدخول بحجم أو كمية الأموال فبذلك يمكنهم تتبع آثار الأموال ومصدرها( الشخصية الحقيقية أو الاعتبارية) وكانت سويسرا أول الدول المستهدفة وبعض الدول الأخرى التي كانت تسمى الجنة الضريبية وبالحقيقة تلك الأموال أغلبها فاسدة، إما ناتجة عن صفقات سلاح أو مخدرات وحتى الرقيق الأبيض وثروات بلاد هربت عبر رجالات الحكم بها بحد ذاتهم، وبالحقيقة تلك الأموال الفاسدة أغلبها رشاوي لهؤلاء الحكام وإذا نظرنا بعين مجردة نجد أن تلك الأموال المودعة بالمصارف بالخارج تعود للبلاد تحت صيغة جديدة ( القروض) وبذلك تكون المصارف أقرضت الدول بأموالها، أو تعود تحت راية المنظمات الدولية ( إغاثة تمويل تحسين مستوى معيشة مشاريع ري وبنية تحتية) وبفوائد مرهقة إضافة للشروط، ويعاود الكرة المصرف بالرشاوي ليدخل من جديد وبصيغة جديدة، وبلا شك هناك وسائل أخرى لغسيل الأموال وتهريبها من أعين إن كان الدولة أو غيرها وأهمها كان الألماس الذي يشترونه لسهولة نقله وتخبئته والدفع بموجبه ليعود من جديد تحت صفقات نظيفة .
أما مكانة بلادنا، فحدث ولا حرج ، وبشكل خاص غياب البنية القانونية الصحيحة كرقابة وعقاب، خلا المخدرات، أما باقي بهلوانات التبييض وغسيل الأموال فلا يوجد ماهرين بذلك كبلادنا وسببه أن تلك الأجهزة الرقابية هي الفاسدة بحد ذاتها وغالباً ما تعتمد على ثغرات عديدة بالبنية القانونية إن كان مصرفية أو تجارية لذلك نشط ببلادنا الدولار المزور والدولار المجمد والصفقات المشبوهة بكل أنواع الفساد، ومنذ أن دخلت المنطقة الربيع العربي نشأت نشاطات جانبية تحت ظل جمعيات ومنظمات دولية من خلالها يتم تبييض، رشوة، شراء وبيع مناطق بكاملها حتى ثروات البلاد، رجال أعمال أو يسمونهم رجال أعمال، وبالحقيقة هم الأكبر، هو الصفقات القذرة وعملية تبييضها عبر شبكاتهم الممتدة من دول الخليج حتى البنوك الدولية عبوراً بالمنظومة الرسمية للدول.
وإذا تتبعنا مسار الأموال القذرة في رحلتها الطويلة على سبيل المثال من باريس إلى دبي مروراً ببلجيكا والمغرب، والتي تنتهي أحياناً بضخها في مؤسسات، ويتم وضع هذه الأموال في مصارف إماراتية متعددة، ليتم إدخالها إلى النظام المصرفي الدولي على شكل استثمارات أو تحويلات عادية.
في إحدى التقارير تبين أن كميات الذهب التي تهرب إلى شركة (كالوتي للمجوهرات)، ومقرها دبي، على يد وسطاء من بروكسل، حيث تقوم الشركة باقتناء كميات الذهب وتحويل الأموال عن طريق شركة (الفردان) للصرافة في الإمارات، والتي تتولى من جهتها تحويلها بعد ذلك إلى عدة دول حول العالم على شكل استثمارات في شركات أو تحويلات عادية.
ولفت التقرير المثير إلى أن السلطات الإماراتية التي ليس لديها أي قانون يعنى بمكافحة تهريب الأموال وغسلها وتغض البصر عن أنشطة الشركات المشبوهة العديدة التي تنشط في دبي بمجال غسل الأموال القذرة الآتية من تهريب المخدرات، وتتعامل مع أباطرة تجارة الموت في العالم.
فما بالكم بدول مفروض عليها حصار اقتصادي مصرفي تجاري بكل تشعباته ورغم ذلك العمليات نشطة وبأتم صحتها، فمثلاً الحصار الإيراني اليوم من جرائه نشطت شركات بدول الجوار وبالخارج عملها تحقيق صفقات لصالح ايران مخترقة هذا الحصار إن كان عبر الأردن والعراق حتى ايران والشركات المستفيدة من هذا الحصار وبلا شك بالشكل القانوني بامتياز، واليوم الأمر لا يغيب مطلقاً عن الأذهان وهو الوضع السوري والحصار القائم وكلنا يعلم دور لبنان كجهاز تنفس لسورية وأيضًا العراق وايران وروسيا، كل تلك الدول تساهم وبشكل قوي في اختراق هذا الحصار ولكن ما هو الثمن؟ بالواقع هنا تكمن مشكلة المواطن السوري، هناك شخصيات تسمي نفسها وطنية ومعارضة وهي أكبر عنصر فعال باختراق هذا الحصار وبالتعاون المتين مع رجالات الدولة وتماسيح السوق إن كان بعمليات غسيل تلك الأموال أو إدخال ما هو ضمن المقاطعة والحصار بشرائهم الخارجي لتلك السلع وتصديرها لتلك الدول والتي بموجبها تتم عمليات الغسيل، إذاً موضوعنا لا يقف فقط على القوانين بقدر ما هو مرتكز على الضمير والمبادئ لهؤلاء الاشخاص وبغض النظر عن مكاناتهم بالدولة أو خارجها ولن تنتهي هذه الظاهرة طالما القيم مغيبة لديهم.
سمير خراط
كاتب سوري