حنّان هو من الأشخاص المحبوبين لدى كل أهل القرية، إنه شخص بسيط لدرجة لا توصف، لم يغادر القرية في كل حياته سوى مرة واحدة كانت قبل عقد من الزمن، حيث زار حلب والتقط صورة فورية في الحديقة العامة، لم ينتبه المصور حينها إلى ثلاث سيدات يظهرن في الخلفية وهن يتأملن حنّان ويبتسمن.
حنّان كان من الدراويش ينام في أي بيت يكون على مقربة منه حين يحل المساء، ويأكل في أقرب بيت إليه حين يجوع، الكل يعرف قصة السيدات الثلاث اللواتي وقعن في حبه في الحديقة العامة في حلب حيث ظل حنّان لسنوات يحمل تلك الصورة في الجيب الداخلي لمعطفه، وكان يزيد بأن واحدة منهن تحدثت إليه لكنه لم يفهم عليها، حينها شعر حنان بخيبة كبيرة وقرر أن يتعلم اللغة العربية وكان يقولها لسنوات: (لو أنني فقط أعرف لغتهم لكنت الآن من سكان المدن ولتزوجت من تلك السيدة التي ابتسمت لي في الحديقة العامة) ثم كان ينهي حديثه بأن حلب كبيرة جداً ونساؤها يضعن مادة حمراء على الشفاه فتصبح افواههن كتفاحة حمراء مقسومة الى نصفين.
حين زار حنان مدينة حلب ليومين قام خلالهما بزيارة كل أبناء القرية الذين يسكنون في حلب، وعانقهم بطريقة حميمية وكأنه لم يرهم منذ سنوات، حتى أنه زار بيت عبد الحميد الرجل الوحيد الذي كان على خلاف مع حنان بسبب حمار ..، كان عبد الحميد لا يعير حماره لأحد لأنه يقول: إعارة الحمار تفسد أخلاقه وتجعله لا يسمع كلام صاحبه. ولهذا لم يطلب منه أحد أن يستعير منه حماره .. لكن حنّان فعلها ولم يرفض عبد الحميد طلبه، والمشكلة التي حدثت هي أن الحمار هرب، حنان لم يكن يريد الحمار لنفسه، بل أعاره لعبد القادر الذي كان بحاجته و نسي أن يربطه ..، حين وصل الخبر لعبد الحميد أن حماره هرب لم يصدق الخبر وقال وكانه لم يستوعب الخبر: أريد حماري.
سارع رجال القرية بالتدخل لأنهم يعرفون طباع عبد الحميد وعرضوا عليه حماراً جديداً لكنه رفض قائلاً: أريد حماري تحديداً.. إنها مسألة عشرة عمر، وظل لمدة شهور متتالية يتردد الى بازار عفرين كل يوم أربعاء ويبحث عنه دون جدوى.
لكن عبد الحميد استقبل حنّان بود كبير حين زاره في بيته في حلب لأنه لم يتوقع يومآ أن يرى حنان واقفاً في بابه في حلب.
أما هوس العثور على الحمار فظل يراود عبد الحميد لأنه يقول: هذا حمار وليس عصفوراً كي يختفي هكذا. وكان حنان يخفف عليه بقوله: هناك حمار ضاع في قرية ما وعاد بعد خمسة سنوات .. هذا يعني أن عبد الحميد صار عنده أمل يعيش عليه وينتظر عودة حماره، لكنه لم يرفض الحمار الجديد الذي اشترته له القرية ولكيلا يشعر بالذنب تجاه حماره قال:
_ أقبله بشرط أن يبقى عندي حتى عودة حماري ... بهذا الشرط تخلص من الإحساس بالذنب.
لكن حماره لم يعد .. أحياناً حتى الحمير تقسو على أصحابها ولا تعود، بل تتحمل عناء مالك جديد وتتأقلم هناك.
في آخر مرة زرت فيها القرية كان حنّان طريح الفراش، قالوا بأنه يودع الحياة فذهبت لزيارته.. ابتسم لي ابتسامة طويلة جداً وقال لي بان رائحة حلب تفوح من ثيابي..، ثم استنشق نفساً عميقاً وقال: إنها رائحة الحديقة العامة ... رائحة تلك السيدة التي ابتسمت لي. وأخرج الصورة من تحت الوسادة ناسياً بأنني رأيتها عشرات المرات .. وهو يشير بأصبعه الى السيدة التي تبتسم خلفه ثم قال لي بحسرة: آخ لو أنني كنت أتقن اللغة العربية لكنت الآن من سكان المدن ولكانت هذه الجميلة زوجتي.
* مات حنان بعد شهور وبقيت قصة عاشقاته في حلب على كل لسان.
* عبد الحميد عثر على جثة حماره بعد أربعة أعوام وقام بدفنها حسب الأصول.
كان محقاً حنان الذي لم يغادر القرية سوى مرة واحدة لأن من يغادرها مرتين لن يعود.
محمد سليمان زادة
شاعر وكاتب سوري