عندما يذكر لفظ (الحرية) أو يتم الحديث عنها، تذكر فرنسا على أنها مدينة النور والحريات وتحسد عليها من باقي الشعوب بما فيها الشعوب الأوربية.
يحدث الآن في العاصمة الفرنسية باريس وفي عدد من المحافظات الفرنسية التي لا تهدأ احتجاجات ومظاهرات رافضة لسعي الحكومة إلى تقييد الحريات.
وكأن الأنظمة السياسية في أوروبا تتجه نحو الديكتاتورية والعنف مصابة بالعدوى من البلدان العربية القمعية.
غليان الشارع الفرنسي مؤشر لعمق الأزمة واتساع الهوة بين السلطة والشعب، وقد أعادت مشاهد المواجهات بين رجال الأمن والمدنيين، وعشرات الآلاف من المتظاهرين في الشوارع الفرنسية، صور المظاهرات والمواجهات العنيفة التي عاشتها المدن الفرنسية في مظاهرات عامي 2018 و2019، التي اختارت السترات الصفراء كرمزٍ لها باعتبار أنّ القانون الفرنسي يفرضُ منذ عام 2008 على جميع سائقي السيارات، حمل سُترات صفراء داخل سياراتهم عند القيادة.
خرجت حركة السترات الصفراء في البداية للتنديد بارتفاع أسعار الوقود وكذلك ارتفاع تكاليف المعيشة، ثم امتدت مطالِبها لتشملَ إسقاط الإصلاحات الضريبية التي فرضتها الحُكومة، ودعت الحركة منذُ البِداية إلى تخفيض قيمةِ الضرائب على الوقود، ورفع الحد الأدنى للأجور والإبقاء على سن التقاعد المعمول به، ثم تطوّرت الأمور فيما بعد لتصل إلى حدّ المناداة باستقالة رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون.
ورغم أن العنف قد اندلع مجدداً في عدد محدود من المدن الفرنسية، على رأسها العاصمة باريس، فقد عاشت ساحة الباستيل الشهيرة ذات الرمزية الخاصة ساعات حرجة، وهو مؤشر كبير يدل على عمق الأزمة، وتكفي الأرقام لتبيان اتساع الهوة بين السلطات وقطاعات واسعة من الشعب، فأرقام منظمي المظاهرات تشير إلى أن أكثر من نصف مليون مواطن نزلوا إلى الشوارع والساحات في باريس.
المظاهرات خرجت ضد عنف الشرطة تحديداً، لذلك كانت النتائج سلبية للغاية ومنها إصابة عدد كبير من الناس من بينهم مدنيين وصحفيين ومصورين خلال توثيقهم للمظاهرات، مع التأكيد إلى أن الكثير من قضايا العنف التي ارتكبتها الشرطة ما كانت لتكشف لو لم تلتقطها عدسات الصحفيين وهواتف المواطنين.
شرارة الاحتجاجات الجديدة مردها إلى مساعي الحكومة استصدار قانون من البرلمان تحت اسم (الأمن الشامل)، يتضمن فقرات تعدها جهات مختلفة بأنها تنسف الحريات العامة وحرية الصحافة، وتعيق عمل الصحافيين، ذلك أن الفقرة (24) من مشروع القانون تمنع بث صور لرجال الأمن في أثناء عملهم واستعمالهم للعنف المفرط، وما فاقم الأزمة معارضة المشروع الحكومي حادثتان حصلتا أخيراً:
الأولى، قيام الشرطة، بإخلاء مخيم عشوائي أقامه لاجئون، وتخلله العنف المفرط من قبل الشرطة.
والثانية حين استهدف أربع رجال من شرطة باريس رجلاً أسود، وهو منتج موسيقى بسبب عدم ارتدائه الكمامة مع ضربه وإهانات وشتائم عنصرية، مثل (الأسود النتن).
الاحتجاجات ضد قانون الأمن الشامل حققت أهدافها فقد تم إيقاف العمل بالمادة ٢٤، بعد إعلان الأغلبية البرلمانية أن المادة ٢٤ سيتم إعادة كتابتها وبشكل كامل، وأتى ذلك بعد اجتماع طارئ لماكرون برئيس الوزراء ووزير الداخلية، رضوخاً للمعارضة من اليسار الفرنسي وحزب الوسط، إضافة إلى الجمعيات الصحافية، والمنظمات الناشطة في الدفاع عن حقوق الإنسان.
وفي باريس أصيب المصور السوري (أمير الحلبي 24 عاماً)، الذي يعمل لصالح وكالة الصحافة الفرنسية ومجلة (بولكا) بجروح في ساحة الباستيل، وقد ندد أمين عام منظمة مراسلون بلا حدود (كريستوف ديلوار) بعنف الشرطة غير المقبول:
كل تضامننا مع أمير الحلبي، لقد جاء من سوريا إلى فرنسا للجوء، كما فعل العديد من الصحفيين السوريين الآخرين.
ليس على دولة حقوق الإنسان أن تهددهم، بل أن تحميهم.
النيابة العامة في باريس فتحت تحقيقاً حول ضرب المصور السوري والذي تعرض أنفه للكسر أثناء تصويره للمظاهرات في العاصمة الفرنسية باريس المحتجة ضد قانون الأمن الشامل ومادته الرابعة والعشرين التي تقيّد حرية الصحافة والتعبير، والجدير بالذكر أن أمير الحلبي حاز على عدة جوائز دولية في التصوير أثناء وجوده في حلب فترة الحصار، منها جائزة (صورة الصحافة العالمية ٢٠١٦).
لقد خرج من أخطر بقعة في الكرة الأرضية (سوريا) إلى بلاد الحرية فرنسا؟؟!!، ليعمل بمهنته (التصوير)، لكنه تعرض للضرب وتهشيم رأسه أثناء تصويره مظاهرة تندد بقانون يمنع تصوير الشرطة.
كاميرا أمير كانت قاسية على الشرطة الفرنسية حالها كحال عدسات إعلاميي الثورة التي كانت تؤرق النظام الأسدي وكل نظام قمعي ديكتاتوري.
وكتبت الإعلامية السورية (زويا بوستان) على صفحة الرئيس الفرنسي ماكرون على الانستغرام:
أنا حزينة جداً، هذه الصورة وهذا العنف المُفرط للشرطة لا يُذكرانني إلا بسوريا؛ ليست هذه فرنسا التي نُحبّ والتي يعشقها أطفالنا.
ونددت الصحافة الفرنسية بـالجنوح الأمني، والإساءة إلى حقوق المواطنين، ومن بين الأصوات المنتقدة رئيسة المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة (ميشال باشليه) ومقررو حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، وكان من بين المشاركين في المظاهرات الرئيس الفرنسي السابق (فرنسوا هولاند) الذي دعى إلى سحب مشروع القانون.
وكتب على عدد من لافتات للمتظاهرين:
(إنهم يهزأون بنا)، و(من يحمينا من شراسة الأمن؟)، و(اخفضوا سلاحكم لنخفض كاميراتنا).
التظاهرات ستتصاعد وستتسع، وستتحول شوارع باريس والمدن الفرنسية إلى ساحات حرب وعنف وشغب، لأن الحرية مسألة أساسية بالحياة والمجتمع الفرنسي، والثورة الفرنسية انطلقت أساساً ضد الملكية ومن أجل الحرية والعدالة والمساواة.