ليست حكاية


   يحكى أن ثمّة مناطق شاسعة من الأرض في غابات الأمازون تعيش في ظلمة دائمة، فالغطاء الكثيف الذي تشكله الأشجار المتراصّة فيها يمنع وصول أشعة الشمس إلى هذه الأماكن، ما يتسبب في نشوء المستنقعات الموحلة وظهور مخلوقات غريبة خطرة تجعل الحياة مستحيلة للعديد من الكائنات، في تلك الظروف المميتة ومن جوف العدم تنهض نباتات طفيلية ذات مجسّات وخراطيم دقيقة، لتلتصق كالعلّيق بجذور الأشجار القويّة وترهن وجودها بما تمتصّه من يخضورها، وبفضل هذا الغذاء الجاهز تعيش وتنمو وتتكاثر، ثم تبدأ أذرعها بالالتفاف بإحكام على جذع مضيفتها اللاهية متسلّقة بصمت نحو الأعلى إلى أن تبلغ ضوء الشمس، حينها وقد تورّمت وتضخمت براثنها لا تكتفي بما أخذت من نسغ الشجرة التي أمدّتها بأسباب الحياة والبقاء، بل تعمد بما ملكته من قوة إلى خنقها وقتلها والحلول محلها.

يمكن للبعض أن يحدّثنا هنا عن أنّ للطبيعة قوانينها العادلة وأنّ حتميّة التغيير وضرورة التنوّع والتوازن البيئي، والتضادّ القائم على ثنائية الموت والولادة وغير ذلك يفرض أن يتقاعد القديم، وينزوي ويخلّي مكانه للجديد، غير أن المولود هنا نبات طفيلي شاذّ وضارّ لا ملامح له، لا فائدة ترتجى منه ولا قيمة أو معنى يمكن تبيّنه من وجوده، أذرعه الدبقة السامّة لن تكون ملعباً للعصافير ولا ملاذاً لأعشاشها وفراخها المسغبة، أشلاؤه لا تصلح لأن تكون سقفاً يقي من مطر أو حرّ وبرد، ولا باباً تأمن بوجوده من متلصّص سارق أو من عابرٍ غادر، أليافه الرخوة لا تنفع حتى أن تكون حطباً..! أين العدالة في أن يغيب الجمال ليسود القبح وما الحكمة في أن يطرد الرديءُ الجيّد؟ كيف للأشجار العالية الراسخة الظليلة أن تختنق وتستبدل بمخلوقات انتهازيّة لا جذور لها ولا بذور؟ ثمّ مع ذلك هل يعني التعدّد والتنوّع غير قبول الآخر والتعايش، إن لم نقل العيش، مع المختلف ومبادلته الاحترام والودّ، وهل حتمية التغيير تفترض قتل الدخيل للأصيل وتغييب ذكره؟ ألم يكن أحرى بالمتطفل الغريب بعد أن استفحل وقويت شوكته أن يفارق بإحسان، وأن يبادر بالامتنان لمن وهبه الحياة، أليس من مصلحته أن يبقي عليه معلماً ومنافساً يدفعه للانتباه إلى ذاته فيطوّر أدواته ويحسّن من شروط بقائه؟ 

تلك كانت يا محمد حكايتك لنا ذات كانونٍ بعيدٍ يعود لخمس وثلاثين سنة مضت، ما تزال صورتك الأخيرة تأخذ حيّزها المضيء في ذاكرتي المجهدة، محمد أمين الشاب المندفع بروحه المكتظّة ببياض اسمه وبخضرة عينيه، بسحنته المحمرّة المضمخة بأرج التفاؤل والحبّ، بقطرات العرق المتقطر فوق جبينه العريض، بفمه الواسع وشاربه العبثي وضحكته المجلجلة.. 

كان يمكن للحكاية أن تنتهي عند النقطة التي تلت آخر كلماتها، ستكون حينها كافية بمنطوقها وبما تكتنفه من دلالات وألم، لولا أنّ خثرة يائسة سدّت شرايين حلمك، استبدلت بياض الفأل بغيم أسود عاقر، وفتحت بوّابات للأسئلة المرهقة بحمقها وبساطتها، كنت أنت تلك الشجرة الباسقة التي أزهرت قلقاً وحيرة، لم نكن قبل موتك نأبه للحياة ولمعارجها الملتوية، اكتشفنا متأخرين أننا أيضاً أشجار تختنق وتموت بيدٍ غريبة نمت في تربة غفلتنا، وبين أنقاض رغباتنا الساذجة. 

لم يكن طرفةً ما رويته لنا في رأس تلك السنة الميلادية يا محمّد أو ربما لم يعد كذلك، بل لم يكن حكايةً ما كنت تقرأه لنا من كتاب الطبيعة الظالمة، إنها الحقيقة محفورة على جماجم رؤوسنا الهشّة، فالكوكب الذي تلفظ الإنسانيّة فيه آخر أنفاسها غدا بكلّ بقاعه تلك الأرض الأمازونيّة الموحلة والمظلمة، ليست الأشجار هي من يحجب ضوء الشمس عن المخلوقات الإنسيّة والزواحف والكائنات القنّانة، إنها الفطريات والطفيليات من يتسيّد غابتنا البشريّة المنتنة، بل هذا المستنقع الكبير الذي يسمّونه العالم الحرّ.  

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي 


 

Whatsapp