بين تحرير اليهود من سبيهم إثر سقوط بابل، وسقوط بغداد إثر الاحتلال الأميركي، تاريخ حافل بالتعاون الإيراني- اليهودي، الذي بلغ ذروته بفضيحة إيران جيت. إلا أن اختلال التوازن الإقليمي بخروج العراق من معادلة القوى الفاعلة، جعل إيران وإسرائيل وجهاً لوجه في مشروعيهما التوسعيين. وهذا ما يعيد للذاكرة مقولة الرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز: " إن إيران مجنونة، والخمينية هي الايدولوجيا الوحيدة المتبقية التي تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، فإيران وإسرائيل دولتان تتمتعان بالقوة الكافية لصياغة النظام الجديد للشرق الأوسط، وهذا في حد ذاته يضع هاتين الدولتين غير العربيتين القويتين على مسار تصادم".
لا يشكل مبدأ تصدير الثورة، ولا حتى البرنامج الصاروخي الإيراني خطراً على إسرائيل. وحده البرنامج النووي الإيراني يمثل ثقباً أسوداً، تعبّر إسرائيل من خلاله عن مخاوفها، لذا عملت جاهدة لمنع التوصل إلى أي اتفاق دولي ينظم حق امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية، إلا أن خطة العمل الشاملة المشتركة في تموز ٢٠١٥، جاءت لتخيّب المساعي الإسرائيلية. لكن مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الثامن من أيار سنة ٢٠١٨عن انسحاب بلاده من المعاهدة المذكورة، وإعادة فرض العقوبات على إيران، عادت معها الغبطة الإسرائيلية، والهواجس الإيرانية التي لم يعد بإمكانها إلا تحمل المزيد من الضغوط، بانتظار نتائج الانتخابات الأميركية، على أمل وصول ساكن جديد للبيت الأبيض، ينهي الآثار التي خلفتها إدارة ترامب، ويحرر طهران من جائحة العقوبات القاسية التي أرهقت اقتصادها.
على الرغم من فوز المرشح الديمقراطي جون بايدين، القادم من رحم الإدارة التي وقعت الاتفاق، وما رافق حملته الانتخابية من تصريحات تتعلق بحرصه على العودة إلى الاتفاق النووي، إلا أن الكثير من المتغيرات تَحُول دون ذلك، وقد تُعقّد الوصول إلى اتفاقٍ جديدة.
فالرئيس المنتخب، والمعروف بالبراغماتية والواقعية السياسية، لن يتخلى عن أوراق القوة التي يرثها عن إدارة الرئيس ترامب فيما يتعلق بالملف الإيراني، بينما تُحاول القيادة الإيرانية بكل الوسائل العودة إلى الاتفاق السابق. وهذا يتطلب مجموعة من التطمينات يُقدمها الطرفين قبل الجلوس على طاولة التفاوض. بينما تُظهر تصريحات الطرفين عمق الهوة بينهما. فقد صرّح الرئيس الأميركي المنتخب: "أن على إيران الالتزام الصارم ببنود الاتفاق النووي" ولم يتأخر الرد على لسان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف: "على الرئيس الأميركي رفع العقوبات عن إيران وهذا لا يتطلب الكثير من الوقت سوى توقيع ثلاثة أوامر تنفيذية" كما أن الشروط التي وضعها بايدن لعودة بلاده للاتفاق، تتضمن إعادة النظر في العديد من بنودِه. إضافة لفتح باب التفاوض حول البرنامج الصاروخي الإيراني وتمدد أذرعها في المنطقة. وهذا ما تُقابله إيران بطلب الرفع الكامل للعقوبات المفروضة عليها، والمتعلقة بالبرنامج النووي أو بسواه.
تتضاعف أوراق القوة الأميركية مع اقتراب البوصلة الأوربية من السياسة الأمريكية فيما يتعلق بهذه القضية. وقد بدا ذلك جلياً حين طالب وزير الخارجية الألماني هايكو ماس باتفاق جديد، سبق ذلك وتلاه توحيد الموقف الألماني والفرنسي والبريطاني، ليصبح أكثر تماهيًا مع الموقف الأميركي تجاه البرنامج الصاروخي والتمدد الإيراني. مما سكب الزيت على النار الإيرانية المشتعلة عقب اغتيال محسن علي زادة، مهندس البرنامج النووي، فقد وافق مجلس صيانة الدستور على القانون الذي أقره البرلمان والمتضمن إلزام الحكومة بإعادة تفعيل النشاطات النووية، خاصةً المتعلقة بزيادة مستوى التخصيب إلى نسبة ٢٠%، وزيادة ١٠٠٠ جهاز طرد من النوع المتطور، وإلغاء التعاون الطوعي الخاص ببروتوكول التفتيش المباغت من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خلال مدة لا تتعدى الشهرين مالم تلتزم دول "٤+١"، (روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا+ ألمانيا) بتطبيق التعهدات الواردة بالاتفاق النووي، خاصة المنصوص عليها بقرار مجلس الأمن (٢٢٣١)، ورفع العراقيل عن بيع النفط الإيراني. وهذا ما يجعل إيران في موقف المواجهة مع المجتمع الدولي، سيما وأن الدول المذكورة عاجزة عن رفع العقوبات عن إيران. وبينما تتخبط إيران في البحث عن مخرج من أزماتها وعزلتها وإنقاذ مشروعها التمددي، الذي تعمل عليه منذ أربع عقود ونيف، وكلفها المليارات، ولا يمكن أن تتخلى عنه بسهولة، نجحت إسرائيل بكسر عزلتها والتطبيع مع عدة دول عربية. فقد أدركت أنه من الممكن في المستقبل أن تتكرر معاهدة ٢٠١٥، وأنه لا يمكن أن تبقى معتمدة على الولايات المتحدة في حماية ما تعتبره أمنها. لذلك شاهدنا بوتيرة تصاعدية، زيادة هجماتها بشكل منفرد على المواقع الإيرانية في سورية، واستهداف متكرر لشحنات الأسلحة المتجهة لحزب اللـه، وهذا ما يدفع لزيادة التوتر في المنطقة واحتمالية السخونة في المواجهة.
قد تكون خطة العمل الشاملة المشتركة، الرحم الذي تمخضت عنه الاتفاقيات التي وقعتها بعض الدول العربية مع إسرائيل، بما مثّلته من صدمة نتيجة تخلي أميركا عن حلفائها، في مواجهة أخطبوط تتمدد أذرعه في دول المنطقة. فبينما تتطاير خطابات إيران الثورة في مواجهة الشيطانين الأكبر والأصغر، تتساقط صواريخ ميليشياتها على الدول العربية، مما دفع بعضهم للحضن الإسرائيلي. هذا التوافق (وبغض النظر عن رأينا فيه) له دور كبير في تحجيم إيران ضمن حدودها، إن أحسن العرب استثماره واللعب على جوانبه السياسية والاقتصادية في مواجهة الإدارة الأميركية أو غيرها، ومن خلفهما الشركات الكبرى الساعية لعودة الاتفاق الذي يفتح لهم أبواب الاستثمار في السوق الإيرانية. فهل يعيد التاريخ نفسه أم أن التوافق المذكور سيشكل بيضة القبان في موازين الدول الراغبة في اتفاق شبيه باتفاق ٢٠١٥؟.
عمار جلو
كاتب ومحامي سوري