كلنا يلاحظ ويتتبع عن قرب جائحة كورونا وانتشارها الذي يهدد الاقتصاد العالمي، والذي قد يكون كارثيًا، وإذا قمنا بشطر نظرتنا إلى شطرين الأول، أن التحليل الاقتصادي الآني يعكس ما يحدث الآن ولا ينظر لأصل المشكلة التي يعاني منها الاقتصاد العالمي وهي تعاظم الديون، الشطر الثاني، أن انتشار فايروس كورونا حالة طارئة على اقتصاد مصاب أصلاً بالإعياء، ما يعني أن كورونا أصاب مريضاً مصاباً أصلاً بسرطان الديون ، ومن خلال هذا سأسلط الضوء على مفهوم الدين العام للعالم المنهك بالديون بعد انتشار فايروس كورنا في كبرى المناطق الاقتصادية.
الديون والمحرك الاقتصادي
لا يخفى على أحد أن الاستقراض هو وسيلة جيدة للتوسع بالمشاريع الاستثمارية والاعتماد عليها يبقى محبذًا أكثر، وبشكل خاص إذا كانت نسبة الفائدة متدنية مقارنة مع عائدية الربح المحقق من جراء الاستثمار، وبلا شك فهناك معايير لكل صناعة أو استثمار يتوجب احترامها بهذه الحالة.
أما إذا ارتفعت أسعار الفائدة لأي سبب كان، أو إذا عجزت الشركات عن سداد ديونها لسبب عام مثل انتشار فايروس كورونا، الذي أدى إلى انخفاض الطلب على المنتجات والخدمات، فإن تلك الشركات لن تكون قادرة على تحقيق أرباحًا لمساهميها، وعاجزة عن سداد ديونها في نفس الوقت، وهذا يعني أن الأثر سيكون مضاعفاً في آن واحد وهو ما يحصل الآن في الاقتصاد العالمي، وقد لاحظنا أن كبرى الشركات الأميركية العالمية المدرجة في وول ستريت بينت عن عدم تحقيقها أرباح في الربع الأول من العام الجاري، ويمكن تطبيق هذا السيناريو على كبرى الشركات العالمية في كافة أرجاء العالم، ولكن يبقى السؤال الأهم ماذا سيحصل للأسواق المالية العالمية التي تتخذ من أسهم تلك الشركات أساساً للأدوات المالية التي يتم تداولها فيها؟ هنا تكون الطامة الكبرى التي ستتجاوز بحدتها أزمة 2008.
الديون في الأسهم المالية العالمية
يدرك المتابع أو المتعامل في أسواق الأسهم المالية العالمية أن أحجام الصفقات المهولة التي يتم تداولها في تلك الأسواق لا تعكس بالضرورة قدرة المستثمرين الحقيقية على ما يستثمرون به. بمعنى آخر، إن غالبية الصفقات تتم بنسبة ١٠ ٪ مما يملكه المستثمر، في حين يتم تمويل الـ ٩٠٪ المتبقية من خلال الاقتراض بعدة طرق معروفة في أسواق الأسهم ومنها على سبيل المثال لا الحصر التمويل بالهامش، والذي يعني أنهم ملزمين بتغذية حساباتهم بأموال إضافية كلما انخفض سعر السهم مما يعني أن تلك الشركات لن تحقق أرباحًا مما يزيد الرغبة والسعي للتخلص من تلك الأسهم فمن من المؤكد أن تحصل انهيارات يومية مما يعني الركود الشامل للعربة الاقتصادية أو حتى انهيارها ، ولكن عندما نسمع عن الدين العام حينها يكون حديثنا عن مجموعة أوراق مالية ذات دخل ثابت تصدرها الدولة أو الهيئات العامة وتعتبر وسيلة لتمويل نشاط الدولة والتي يمكن للأفراد أو المؤسسات أو حتى الدول الأخرى الحصول عليها وأشهرها ( الالتزامات والاذونات والسندات) .
كيف يعمل الدين العام؟
الدين العام يعتبر طريقة شائعة وواسعة الانتشار لتمويل الإدارات العامة، والهدف منه توفير السيولة اللازمة لتحقيق الأهداف التي تحددها الإجراءات الحكومية.
وينقسم الى قسمين:
– الدَّين العام الداخلي الذي يستثمر فيه المستثمرون المحليون.
– الدَّين العام الخارجي تكون فيه المعاملات قائمة على الأفراد والمؤسسات أو الدول الأجنبية.
ومن خلال تصنيف الدين حسب شروط مهمته، نجد ثلاث مجموعات:
● الإصدارات قصيرة الأجل: هي أذونات الخزينة ولها آجال استحقاق أقل من عام واحد.
● السندات التي تصدر على المدى المتوسط: هي الأكثر شيوعًا لتمويل الأنشطة الرئيسية للجهات المصدرة للسندات.
● الدَّين العام طويل الأجل: يتم إصداره في مجالات الاستثمارات الكبيرة التي سيتم القيام بها أو في الحالات الاستثنائية، وهو دين طويل الأجل يمكن أن يختلف عبر فترات زمنية.
لماذا يوجد دَين عام؟
يظهر لنا من أن معاملات الديون ترتبط بحالات العجز العام، فعندما تحتاج الدولة إلى تمويل لزيادة الإنفاق، فإن ما تفعله لتغطية هذا الإنفاق الزائد هو الزيادة في إصدار أدوات دَين وباختصار، يعد الدين أداة تمويل تساعد الدول في تحقيق أهدافها المالية والنمو في حالة الحاجة، كما ينبغي تقديم عائد متفق عليه مسبقًا للمنتفع، وفقًا للمواعيد النهائية للإصدار.
حجم ديون الحكومات
يفيد تقرير لوكالة ستاندرد آند بورز غلوبال صدر في شباط/ فبراير الماضي بأن قيمة ديون الحكومات في أنحاء العالم ستقفز إلى مستوى قياسي عند 53 تريليون دولار بحلول نهاية العام الجاري وهو تسارع كبير ليصل إلى مافوق ٢٣٣٪ من الناتج العام العالمي.
الديون وفيروس كورونا
فيروس كورونا سيعمّق من ثقل المديونية على الدول، ويرفع حجم الديون عبر العالم إلى مستويات تتجاوز التوقعات. فقد أطلقت العديد من الدول - وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية (أكثر من تريليوني دولار) ودول الاتحاد الأوروبي - خطط تحفيز لمواجهة تداعيات الفيروس، بجانب تخفيض البنوك المركزية لأسعار الفائدة إلى مستويات متدنية، في محاولة لتنشيط الاقتصاد، مما سيفتح الباب أمام مزيد من الاقتراض، ولاحظنا حجم الاجراءات التي اتخذتها الحكومات لكبح الانهيار الشامل للاقتصاد إن كان بدعم الشركات عبر منح واعفاءات ضريبية والأخذ على عاتقها رواتب العمال الذين أجبروا على البقاء بمنازلهم جراء الحجر المتكرر، إضافة الى ذلك أيضًا النقص الملحوظ بالناتج المحلي وغياب الرسوم والضرائب وعائدات الاستثمار للدولة مما شكل عجزًا ملحوظًا وارتفاع الدين العام الذي يحتاج إلى سنوات عديدة لمواجهة فوائده المتراكمة وأقساطه ومستحقاته، ناهيك عن التغير في مفاهيم العلاقات الدولية التجارية التي أثبتت فشلها ومفهوم التضامن إن كان ضمن دول متحدة كالاتحاد الأوربي أو حتى ضمن الولايات كما حدث بالولايات المتحدة والتمسك كل ولاية بمصلحة مواطنيها والتحفظ بشكل ملحوظ على ما تملكه من مستلزمات طبية وأدوات لمواجهة الجائحة التي غزت البيوت والمشافي بالوقت ذاته ونشوء قوى اقتصادية أو بالأصح إعطاء قوة إضافية لاقتصاد يناطح الدول العظمى ويتغلغل بقوة ضمن عربتها الاقتصادية منافساً إياها على مكانتها الدولية والسيادية أو حتى مفهوم أمنها الصحي وبلبلة عملتها السيادية.
ماذا يخبئ لنا المستقبل؟
يفيدنا التاريخ أن حالات الظلم التي سادت على مر العصور لا بد لها أن تنتهي بشكل من الأشكال، ولم يشهد التاريخ حالة من تغول فئة قليلة من البشر على حقوق وأقوات وأرزق الغالبية العظمى منهم مثلما نشهده في عصرنا الحالي والذي يدل بشكل واضح وصريح على جشع الدول قبل الأفراد والذي بدوره انعكس بشكل مباشر على القيم الانسانية التي ماهي إلا هدف من كل ما يقوم به الاقتصاد من تطوير ورقي بالإنسان، أما من الناحية العلمية للأسواق المالية، فإن الأسواق لا بد لها من أن تصحح نفسها. والتصحيح هنا يكون بعودة الأمور إلى أصلها التي كانت عليه قبل أن تتضخم لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم، ولعل فايروس كورونا سيسهم في ذلك رغم الألم الذي ينشره بين البشر، لكنه، وبلا شك، سيعجل من انهيارات في الاقتصاد العالمي كانت ستحصل حتماً لو لم يكن هناك كورونا، وسببه التمركز لثروات العالم بأيدي قلة من المجتمع الدولي إن كان على شكل شركات عابرة للقارات ووفق مفهوم العولمة أو عبر التسلط على مراكز الثروات ومواد الخام عبر بنوك ومصارف تابعة لتلك التجمعات المالية بأنحاء العالم، او ستجبر على الغاء الديون الناتجة عن الجائحة وبأضعف الايمان جدولتها لفترات زمنية طويلة بفوائد شبه صفر شريطة ان لا تستعملها ورقة ضغط غير مباشرة على الدول الفقيرة لتستحوذ على امتيازات من جرائها تستملك الثروات الوطنية.
إن انتشار فايروس كورونا ما هو إلا عامل مساعد لضعضعة الاقتصاد العالمي المتهالك أصلاً بسبب أحجام الديون المهولة، وانتشار الهوة بين الغنى والفقر، والظلم في التغول على حقوق غالبية البشر وأقواتها وأرزاقها لصالح فئة قليلة جداً تتحكم في مفاصل الاقتصاد العالمي وتربطه بها وبثرواتها وقد بينت بالبداية مبادئ بسيطة في نظرية التمويل الرأسمالية الحديثة التي تشجع على الاقتراض كوسيلة للحصول على أموال بكلفة أقل من المشاركة في الأسهم التي ما هي بالحقيقة إلا برهانًا على انفصام كامل عن معنى الاقتصاد الاجتماعي والانساني.
سمير خراط
كاتب سوري