إلى طاولة ملاصقة للتي تجلس عليها صديقتي جلستُ، ظهري يلامس ظهرها، أصغي للحوار بين عاشقين على وشك الانفصال لأسباب خارجية لا داخلية، دعتني صديقتي للتنصت كيما اساعدها في اتخاذ القرار.
قال لها:
• أهديك عطرًا تنثرينه على أصدقائك كأنه سبيل. أعطيك ذهبًا تخفينه تحت ثوبك كأنه منديل. وعندما أدعوك للعشاء ترفضين. عفوًا، دمي لن يكون وقودًا لرغباتك، أنا بشرٌ من لحمٍ ودم، من شحمٍ وعظم.
جلب لي النادل فنجان قهوة أيضًا، كان يبتسم بخبث ومكر، وهو الذي اعتاد على رؤيتنا معًا على طاولة واحدة وليس طاولتين متلاصقتين، انسحب بهدوء بعد أن زجرته بعيني زجرة لطيفة.
قالت له:
• عذرًا، أنا لست مدفئة تتدفأ بها وقت الشتاء وترفعها بحلول الربيع. أنا أيضاً بشر من لحم ودم ومن شحم وعظم، آكل وأنام، أعشق وأكره، أضحك وأبكي، أهمس وأصرخ، أحلم وأسرح، أركض وأسبح، أرقص وأغني، يعني: بشر، ولديّ قلب وعقل ونفس وروح.
كان الطقس حزينًا، إنه يوم خريفي بارد، جارح كالسكين، عينتاب أبرد من حلب، حلب تفضل البيوت في مثل هذا الوقت، والذين يخرجون لسبب ما يقاومون ضربات الريح بالعبوس والتقطيب.
قال لها بلهجة نصفها تقطر حزنًا ونصفها الأخر مشبعة بالسخرية:
• تقولين بأنه يهمك حزني، بل ويحزنك، وتتأسفين على عدم فهمي لك، فسري لي فأنا لا أفهم كيف للمرء أن يُعطيك سيجارة ويمنع عنك القداحة؟ أن يسمح لك بقبلة ويرفض المصافحة؟ أن يدعوك لفنجان قهوة ويدعوك للاكتفاء بالرائحة؟ كيف له أن يطلب منك ثمن التذكرة ولا يسمح لك بالدخول؟ أن تشرب الخمر يعني أن تسكر! وتطلبين مني فهمك؟
قالت له:
• تتباهى بأنك صريح مع أن الحقيقة مرّة. لا أحد يقرأ كتابًا مغلقًا، قالها مرةً شاعر الحب نزار، كتابي مفتوح لكنك لا تستطيع قراءته، الكلمات والجمل فيه واضحة، كأنك هندي يكتب بالعربية وأمامه كتاب باللغة العربية. تهمس بأنك اعتدت على رؤياي، وتحس بالوحدة والفراغ من دوني، وبأنه يكفيك الشعور بوجودي، حتى إن لم يكن ثمة كلام. ثم من بعدُ تخاف كطفل يستحم لأول مرة، كعذراء ليلة زفافها، أتريد نارًا بلا دخان؟ أتخشى من عواقب اللقاء؟ لطفًا، لست شمعة تزين بها طبق عيد ميلادك، ولا مكياجًا تبيّض به سمار وجهك، أنا إنسان من لحم ودم، أسمع وأرى وأحسّ، أفرح وأحزن.
عاد النادل ليجدد قهوتي وسألني بعينيه عما يجري، صرفته بيدي اليمنى متبوعة بنفخة أشبه بقبلة من فمي، فتراجع وقد شغفه الفضول أكثر.
قالت له :
• لست سلعة في مخزن استهلاكي تأخذ منه ما تحتاج، وتدّخر ما ستحتاج، وتبيع ما لا تحتاج بشرٌ أنا، بشر من لحم ودم، أجوع وأعطش، أحب وأكره.
قال لها:
• لا ..لا أومن بإخلاص المرأة، لوكان ذلك لما هبط أبونا من الجنة، ولا قتل هابيل قابيل، وما فقأ أوديب عينيه، ولا عرف قوم لوط بضيوفه، ولا طلب يوسف السجن من ربه، و لا انتحر أنطونيو من أجل كليوباترا، ولا جن مجنون، أنا بشر من لحم ودم ومن شحم وعظم، لكنني أيضاً من عقل وفكر، أسمع وأبصر، أحلم وأفسر.
نهض الرجل دون أن يمس فنجان قهوته، اقترب مني وقال:
• أتمنى أن تفهمي صديقتك.
كان طويلًا مرسل الشعر، أنيق المظهر، ينتعل حذاءً انجليزيًا باهظ الثمن. سألته:
• هل تقبل دعوتي لشرب فنجان قهوة؟
ابتلع ريقه ثم نظر نحو صديقتي وقال:
• اللحوم لا تشرب القهوة.
ثم خرج. خروجه كان مختلفًا عن دخوله، حين دخل كان محنيّ الظهر، مطرق الرأس، يخطو ببطء مثل متهم يمثل أمام القضاء. وحين خرج كان مثل السجين الذي أفرج عنه، مرفوع الرأس، مشدود الظهر، يقرع الأرض بخطواته المتسارعة. قالت لي وهي تراقب المارة من نافذة المقهى:
• كيف رأيتِ من أحب؟
قلت لها:
• لا يستحق هذه اللعبة الصعبة؟ ليس من السهل أن تجدي شخصًا مثله محبًا لك وناجحًا.
قالت:
• يطلب مالا أستطيع أن امنحه.
قلت لها وما زال ظهري يلاصق ظهرها:
• وتطلبين ما لا يستطيع هو منحه لك.
قالت وهي تحتسي قهوتها ببطء:
• الاعتقال ليس وصمة عار
قلت لها:
• وسيف المجتمع أحدّ من سيف الدولة.
عاد النادل متلهفاً، تجمّد حين رأى التحام الظهرين، بينما العيون شاخصة، تحاور ملاكين يشرفان من جهتين متعاكستين. كانت أوراق شجرة الدلب الشاحبة تطرق واجهة المقهى قبل أن تسقط على أرض الشارع. شتاء عينتاب كشتاء حلب حزين، حزين وأكثر قسوة.
علاء الدين حسو
كاتب وإعلامي سوري