المايستروتور


 

المايسترو الشاب الذي استَلَمَ قيادة الفرقة الأوركسترالية الوطنية أصبح فجأةً حديث الصحافة وآسراً للقلوب، بابتسامته الدائمة وقُمصانه المنشّاة وحديثه عن تصّور مختلف للسيمفونية الخالدة والتي ستؤديها الأوركسترا بقيادته.

تَسرَّبَتْ أخبار عنه من كواليس الفرقة بأن خلف ابتسامته صرامة مرعبة يرتجف منها الموسيقيون، ولأني كنتُ صحفياً مهتماً بالعرض الكبير، فقد ذهبت الى إحدى التدريبات التي تُجريها الفرقة والتقيتُ بِجمعٍ من الموسيقيين، وكُنتُ أسألُهم عن رأيهم بالمايسترو الجديد فيجيبون بأنه أفضل من المايسترو السابق، وإن التدريبات تجري على قدم وساق.

لكن حين اجتمعت مع بعضِ معارفي من هؤلاء الموسيقيين، كلاً على حِدَة، سمعتُ كلاماً غريباً. قال لي أحدهم وهو يتلفّت ليتأكد أنه ما من أحد بقربنا:

  •  هذا المايسترو لا يعرف كيف يمسك عصا المايستروية أو أنني لا أفهم شيئاً بالموسيقا !!

قال آخر على انفراد: 

  • إنه يعطينا إشارات لا تنسجم مع النوطات المكتوبة وهذا يربكنا فهل نعزف النوطة أم نتبع اشارته؟

وقال آخر:

  •  إنه يقفز عن مقاطع رائعة من السيمفونية الخالدة.

كان من الصعب أن أكتب شيئاً عما تسرَّب لي من أخبار لأن الأجواء الإعلامية كانت تصفه بالمايسترو المُعجزة، إضافة إلى وجود الكثير من اللقاءات مع عديد من الموسيقيين الذين يشيدون به وبأُسلوبه الخاص في القيادة، لكن فُضولي دفعني لمعرفة المزيد مما يحدث في البروفات المُغلقة.

حدَّثني أحد الموسيقيين كيف أن المايسترو طَرَدَ ثلاثة من أمهر عازفين الكمان في الفرقة فاستفسرتُ عن السبب فقال لي: 

  • كان هؤلاء يعارضون القفز عن مقاطع كاملة مما جعل السيمفونية الخالدة تفقد ترابطها وجمالها، ويقولون أيضاً إن إشاراته تُخرج الموسيقيين عن الإيقاع وماذا حدث (سألته):

  • طَرَدَهم شرَّ طردة (أجابني) 

  • وهل استبدَلَهُم (سألته) قال نعم استبْدَلَهُم بثلاثة عازفين للطبول.

 في الحقيقة شككت في كلامه ولَم أكتب عن شيء بدا لي فانتازياً ومبالغاً فيه، لكن بعد فترة التقيت بموسيقي آخر من معارفي بالفرقة، فأخبرني عن طرد عازف البيانو الوحيد، إضافةً إلى عازفي الفلوت والتوبا والفيولنسيل.

لَم أكتب شيئاً عن الموضوع لأن الجميع يتطلّع إلى الحفل الذي اقترب موعده وخشيت أن أبدو كواحد ممن يوهنون نفسية الجمهور وسط أجواء الفرح والتهليل للحدث الكبير.

وحَدَثَ أني في تلك الفترة كُنت مُناوباً في الجريدة مساءً وأُراجع مع رئيس التحرير أحد المقالات وفجأة ً لَفتَ انتباهه في التلفزيون قبالته شيئاً ما، فأمسك بالريموت على عَجَل ورفع الصوت، كان هناك برنامج خاص عن اعترافات لمخربين تم القبض عليهم مؤخراً، ويسأل المذيع أحد (المجرمين):

- ماذا كنت تعمل؟

- عازف بيانو في الأوركسترا

- أخبِرنا مَن جنّدك للتخريب وماذا طلب منك؟

- كان شخصاً قدم نفسه لي بأنه أبو عبدو وعزمني إلى أحد المطاعم وأقنعني بأن الهارموني المكتوبة في السيمفونية الخالدة سيئة، وبأن عليَّ أن أغيرها فجأة اثناء الحفل، وإن هذا سيدهش الحضور. 

- وهل كان هذا الشخص أجنبياً؟

- من؟

- أبو عبدو

- ربما يكون كذلك لأن لكنته غريبة!

- وماذا أعطاك؟

- ظرفاً مليئاً بالنقود 

- وكيف تم القبض عليك؟

- بالجرم المشهود 

- هل انت نادم؟

- نعم يا سيدي

(هنا علَّق رئيس التحرير على ما شاهد من تورم حولَ عينيّ العازِف):

  •  (ليك عيونو ليك هالمجرم، أأكيد من كتر السهرات الفلتانة والشرب!).

(لم اُعلّق) وتعرفت على (المجرم) الثاني فقد كان عازف الكمان في الفرقة.

- ما المهمة التي كُلفت بتنفيذها

- أن أسرق عصا القيادة الخاصة بالمايسترو من خزانته في الكواليس قبل الحفلة بوقت قصير.

- وهل كنتَ تظُن أن المايسترو لن يستطيع القيادة دون عصا؟

- نعم كنتُ أظنُ ذلك 

- وكيف تم كَشْفَكَ قبل أن تُفكر حتى بالتنفيذ؟

- كُنتُ أعملْ بروفا جنرال، عفواً ...كنت أعمل بروفا على القيام بالسرقة لكن الأجهزة المختصة كانت لي بالمرصاد

- بماذا تنصح الشباب الموسيقيين الذين يسمعوك الآن

- بأن ينتبهوا إلى رأس عصا المايسترو فهي أهم من كل شيء تعلموه

(لم أستطع متابعة الاعترافات فخرجت لا ألوي على شيء).

بعد أيام تلقينا في الجريدة تعليمات بتغطية الحفل والكتابة عنه ووصلتنا بطاقات الدعوة الأنيقة.

دار الأوبرا ممتلئة عن آخرها / الرسميون يشغلون الصفوف الأمامية كالعادة / بعض الكراسي مازالت فارغة في الصف الأول / يأتي أحد الوزراء ويحاول الجلوس بأحدها فيبعده أحد المنظمين ويأخذه لكرسي متطرِّف /

دقائق ويدخل رجال عابسون يمشون بتثاقل فيصحبهم المنظمون إلى تلك المقاعد المميزة، وأخيراً يُفتح الستار.

يدخل الموسيقيون ودون أن ينظروا إلى الجمهور، يأخذون أماكنهم ويبدو من لغة الجسد أنهم يعرفون أنهم ليسوا المعنيين بلهفة الجمهور وتصفيقه، ثم بعد لحظات من الانتظار يدخل المايسترو حاملاً عصاه، ويتوسط المسرح وسط عاصفة من التصفيق، ثم وبكل أناقة يطلب من الفرقة الوقوف تحيةً للجماهير، ويزداد التصفيق حماسةً، ثم وبعد قليل يعم الصمت، وبإشارة من المايسترو يبتدئ العزف.

كان مكاني مميزاً في البلكونة المطلة على المسرح وعلى الجمهور معاً، لذا فقد كان المشهد كاملاً، في الحقيقة أنا لم أُصدق ما أراه ولا ما أسمعه، إذ كان كل الموسيقيين في الفرقة هم عازفي طبول !!!، لكني لم أتَسرَّع بالحُكم على الأُمور 

فلعل هذه مجرد بداية الاحتفالية.

لكن الطبول استمرت بالعزف وكان الجمهور يُقاطع العزف كثيراً بالتصفيق الحماسي خارجين بذلك عن أُصول دار الأوبرا، وكانت نظرات الاستحسان تُشِّع من وجوه أصحاب مقاعد الصفوف الأولى، ومع ضربة طبل مُدَوّية وبإشارة من المايسترو تحمل نشوة انتصار، انتهى العرض، فانتفض الجمهور يصفِّق وقوفاً لمدة طويلة، أما أنا فقلت في نفسي إما أنا مجنون أو إن هذه كانت فرقة مطبّلين ورديئة أيضاً، ثم قلت في نفسي هل يمكن ألا يكون قد استرعى انتباه الجمهور أن أكثر من ثمانين عازفاً في الفرقة كلهم يعزفون على الطبول؟ فأين هي الأوركسترا الوطنية؟؟ ثم أين موسيقا السيمفونية الخالدة؟؟!!!

انطلقت الى الكواليس فكنت أول الواصلين، وجدتُ المايسترو المزهو بنفسه وبابتسامته المعروفة يُرحب بي، فطلبتُ منه حديثاً صحفياً سريعاً من أجل أن نُغطي الحَدَثْ، فرحب بذلك. 

قلت له لقد لَفَتَ نظري غياب آلات الأوركسترا الاعتيادية فهل من تفسير لذلك؟؟

فقال: كنتُ أَظُنُّ أن ما لفتَ نظرك هو هذا النجاح الكبير والتصفيق المنقطع النظير/ لكن لا بأس وسأجيبك عن سؤالك / لكن قبل أن أُجيبك فلنُعَرِّفْ ما هي الموسيقى/ وهل كل النوطات الموسيقية على نفس الدرجة من الأهمية/ ثم ألا تعرف أن الإيقاع هو أساس الموسيقا/ ثم ماذا عن هويتنا الموسيقية إن كُنّا نعتمد على الآلات الغربية / إن استبدال كل تلك الآلات بآلة تستطيع أن تُلهم الجمهور بالحماسة هو جوهر العودة الى تُراثنا، وهو ما نحتاجه في حقيقة الأمر، ولا أظن بأنه قد فاتَكَ الانتباه الى هذا الانسجام الرائع بين العازفين. 

قلت له: ولكن موسيقا السيمفونية الخالدة التي أعرفها هي غير تلك التي سمعتها اليوم.

قال: هذا ما يُخَيَّل إليك، إن ما سمِعتَه اليوم هو مُجرد رؤية جديدة، (ثم بابتسامة واثقة) اسمع أيها الصحفي المحترم ما سأقوله لك، وأنصَحُكَ بأن تجعل هذه الكلمات في المانشيت الرئيسي لمقالتك.

" لقد كُتِبَ الكثير من السيمفونيات الخالدة في الماضي ورُبما سيَكتِبون المزيد منها، وسيُجهِدونَ أنفسهم ولوقتٍ طويل بهندسة النوطات على السطور، لكن طالما أنني بِعصاي هذه أقود الأوركسترا انس موضوع النوطات، وراقب فقط كيف سأنتزع تصفيق الجماهير.

 

سميح شقير

موسيقي وكاتب سوري

Whatsapp