حين ضغط ضابط شرطة منيابوليس " ديريك تشوفين" بركبته على عنق " جورج فلويد" المطروح أرضاً حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، كان فعلياً قد ضغط على زناد الحرب المؤجلة لعقود بين السود والبيض والتي اعتقد الساسة في واشنطن أنّها أصبحت من الماضي وخاصّة بعد وصول " باراك حسين أوباما" إلى البيت الأبيض، وفشله في الحفاظ على موقع الولايات المتحدة كقطب أوحد يدير سياسة العالم، ويدعم الإنتقال إلى الديمقراطية، ويحضرني الآن ماقاله في خطابه الشهير في جامعة القاهرة 4/ يونيو 2009 متوجهاً للعالمين العربي والإسلامي بما يتعلق بالديمقراطية حيث قال أوباما بالحرف: ” يلازمني اعتقاد راسخ أن جميع البشر يتطلعون لامتلاك قدرة التعبير عن أفكارهم وآرائهم فى أسلوب الحكم المتبع فى بلدهم، ويتطلعون للشعور بالثقة فى حكم القانون وفى الالتزام بالعدالة والمساواة في تطبيقه، ويتطلعون كذلك لشفافية الحكومة وامتناعها عن نهب أموال الشعب ويتطلعون لانتخاب حكوماتهم بالصورة المناسبة. وبالتأكيد فإن الحكومات التى تحمي هذه الحقوق وتطبقها هيالتي تتمتع بالاستقرار والنجاح.”
إنّ صعود نجم أوباما السريع ليصبح الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة يجعلنا نتساءل عن حقيقة وجود الدولة العميقة ومدى هيمنتها على القرار السياسي وتحديد المسار الذي تسير عليه الإدارات المتعاقبة، فلقد دخل أوباما عالم السياسة ونجح كديمقراطي في الفوز بمقعد في مجلس الشيوخ لولاية ايلينوي عام 1996، وهو في منتصف الثلاثينات من عمره ثم لم يلبث أن قرر الترشح لمقعد في مجلس الشيوخ للولايات المتحدة ونجح بشكل غير متوقع في الانتخابات الأولية، كما أدّى قسمه كسيناتور في 3 كانون الثاني عام 2005.بوصفه عضوًا في مجلس الشيوخ، ليصبح بعدها المرشح الأقوى في الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية 2008 ويفوز بها كأول رئيس من أصول أفريقية يدخل المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.
كان الشعب الأميركي مسحوراً بهذا الانجاز الذي استطاع آنياً أن يزيل الاحتقان والصداع الذي سببته مرحلة جورج بوش الابن والشعور بالعار نتيجة غزو العراق، ولكن أداء أوباما بدا هزيلاً لا ينسجم وقوة أميركا وقيادتها ودفاعها عن الديمقراطية وخاصة في الفترة الرئاسية الثانية وظهر جليّاً خذلانه للربيع العربي من خلال تأييده لإنقلاب السيسي على الرئيس الشرعي محمد مرسي الذي أفرزته صناديق الاقتراع وكان أول رئيس لمصر منتخبًا ديمقراطياً، وموقفه السلبي تجاه الشعب السوري حين مسح خطه الأحمر وترك النظام يذبح ويهجّر الملايين دون أن يفعل شيئاً بل أدار ظهره لمستشاريه كلّما طرحوا له الملف السوري، وتنكّر كليّاً لخطابه في جامعة القاهرة الذي دعا فيه بضرورة أن تكون الديمقراطية البديل القادم للمنطقة.
لم يكن بمقدور روسيا أن تستولي على شبه جزيرة القرم 2014 إلّا بوجود رئيس مثل أوباما، ولا أن ترسل طائراتها لتقصف المدن السورية بكل أنواع القذائف الضخمة ذات القوة التدميرية الهائلة 2015 إلّا بوجود أوباما، ولا أن تستبيح إيران بشكل صارخ العراق وسورية ولبنان واليمن إلّا في عهد أوباما، الذي أفرج عن عشرات المليارات من الدولارات التي كانت مجمّدة لتموّل إيران حربها على شعوب المنطقة وتهدد الخليج.
كلّ ذلك كان يؤسس لوصول ترامب إلى البيت الأبيض تحت شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا" وكان شعار الحملة يعبّر عن مدى انزعاج الأميركيين (وخاصةالبيض) من إدارة أوباما (الأسود) التي نالت من هيبة الولايات المتحدة وتراجعها في المحافل الدولية كقائدة للعالم.
نعم هناك انقسام في المجتمع الأميركي، ما بين البيض المؤسسين لأميركا والملوّنين الذين جاؤوا من شتى الأصقاع لينعموا بالحلم الأميركي، ولكن هناك من هو ممتعض من تراجع الحلم ولا يريد أن يستيقظ على واقع لأميركا مختلف عمّا أسّسه الأجداد، فالصراع موجود والانقسام كذلك حتى ولو ادعت أميركا الديمقراطية، فجذور جماعة " الكوكلكس كلان" مازالت ضاربة في عمق الأميركيين البيض ودماء " مارتن لوثر كينغ" شاهدة على ذلك التجذّر، الذي عاد من جديد ليبرز في حادثة قتل " جورج فلويد" التي كانت أشبه بالصاعق الذي فجر برميل البارود، حين اجتاحت المدن الأميركية موجة من العنف أبرزت مدى الإحتقان في المجتمع الأميركي، ولاشكّ أن دونالد ترامب أراد لهذا الانقسام أن يظهر للعلن متحدّياً بذلك الدولة العميقة التي قررت ( على مايبدو) التخلّص منه في انتخابات أقلّ ما يقال فيها أنّها استثنائية لم تحدث في تاريخ أميركا منذ نشأتها.
انتفاضة البيض يوم 6 يناير والهجوم على الكونغرس المنعقد للتصديق على نتائج الانتخابات كان الرد الطبيعي من الحالمين بعودة أميركا عظيمة مجدداً ولم يجدوا في الرئيس الفائز " جو بايدن" سوى أوباما آخر ولكن بسحنة بيضاء.
ياسر الحسيني
كاتب وإعلامي سوري