النصّ والسُّلطة


 

ترِدُ السلطة كمصطلح بمعنى السيادة والسيطرة والهيمنة والتحكّم، والسلطة كمفهوم تفترض في جميع ميادينها، بالضرورة، حيازة الإرادة والقوّة والقدرة على الإكراه والتوجيه، والامتثال لسلوك معيّن يتأرجح بين الفعل والامتناع. وللنصّ كما للشخص سلطته المستمدّة من عوامل تتعدّد وفقاً للموقع والمؤثرات سواء منها الداخلية المتعلّقة بمضامينه وأنساقه اللغوية وجماليّاته التعبيرية والإبداعية، أو تلك المؤثرات التي تفرض ذاتها من خارج النصّ مصدراً وواقعاً ومؤلفاً وحتى جمهوراً.

في مقارنة مبسطة ما بين سلطتين تبدو سلطة النص هي في الفضاء الذي تتحرك في أجوائه سلطة القراءة، فالنصّ فعلٌ ورؤيا وشرط لوجود، تتحرّك في مداراته الفهوم والرؤى اللاحقة. إنّ انعدام وجود النصّ قد يشير إلى انتفاء وجود اللغة والقارئ معاً. يملك الكاتب القدرة على زرع حقول أوراقه البيضاء بما يشاء من بذار، ويستطيع سقايتها وتثميرها وتطعيمها وزخرفتها، ومنحها الهوية والاسم، بما تسعفه ثقافته وقدراته التعبيرية والفنية والمجازية، متجرّداً ما أمكن مما قد يحول ما بينه وبين تشكيل عالمه وفق رؤاه، ومبعداً كلّ ما يقيّد لغته أو يحبط أخيلته ويحدّ من جموح أفكاره وتصوّراته، غير أنّ القارئ وحده هو من يبعث الحياة في النصّ ويمنحه المعنى والجدوى، ويتبنى مقولاته أو يفردها ويبعثرها، ويصوّب دلالاته ورموزه، ويعيد صياغة حكايته وترتيب معانيه.

مما سبق يمكن القول بعدميّة وجود سلطة ما بمعزل عن السلطات الأخرى المتشابكة معها، والمرتبطة بها وجوداً وعدماً، يبنى على ذلك أنّ لا شيء، ولا أحد، يمكنه احتكار السلطة المطلقة، فالسلطة بطبيعتها تشاركية وتفترض وجود الآخر الذي سيكون محلاً للالتزام ومصدراً للإلزام في الوقت ذاته، إذاً يمكن التوكيد على أنّ النصّ بلا قارئ لا سلطة له، بل هو كائن ميت.

لماذا قد يحتاج قارئ ما لنصّ ما بعينه، ما الذي يدفع المتلقي لاختيار هذا النصّ دون غيره، ثمّ ما الأسباب التي تجعله يعتقد بأهميته ويجزم باستيفائه شروط الجمال والرصانة والإبداع والتفوّق..، بل وبالرضا عنه والاستجابة لحمولاته الفنية أو الفكرية والمعرفية، وباليقين، اختصاراً، بأنّ هذا النصّ سيلبّي شغفه ويضيف إلى ثقافته؟؟؟ 

أليست السلطة التي يمتلكها صاحب النصّ، أو لعلها سلطة نصوصه السابقة، هي التي شكلت لدى القارئ المفترض حكماً عامّاً ثابتاً، ويقيناً مسبقاً بأنّ ما لم يقرأه لهذا المبدع لن يقلّ فتنة وإمتاعاً وغنى عما اطلع عليه من نصوص له؟

إنّ أغرب أنواع السلطة وأشدّها هيمنة وقسوة هي سلطة الرعاع الذي قد لا يقتصر تأثيره على الناقد أو المختلف أو الرافض، بل قد يمتدّ ليشكّل قيداً على مبدع النصّ بعينه، وبهذا المعنى نحن أمام حالة من الشعبوية والعصبوية التي تسعى لفرض قناعتها ورأيها على سواها دون أدنى تعقل، رافضة الاحتكام للمعايير والقيم المجرّدة، نابذة لمنطق التنوّع أو لوجود الضدّ، الذي قد يكون ضرورياً لإظهار محاسن من أو ما ينتصرون له، منكرة على الآخر حقّه الاختلاف في الرأي، بل منكرة أصلاً لوجود الآخر ولحقه في الوجود. إنّ هذا النوع من السلطة الناجم، غالباً، عن الجهل وغياب الوعي هو شكل من الغلوّ والاستبداد يترجم ذاته في شكل من أشكال التقديس الأعمى والارتهان للغيبي، وهو نوع من القهر والاستلاب والخوف يتمظهر برداء الانتصار للمقدّس الذي يحتمون بسطوته، ويتلطون وراء دريئته خشية الانكشاف والضعف، وأن يفلسوا وينكسروا إن تحطّم طوطمهم المزعوم.

إن سلطة النصّ الإبداعيّ ليست فيما يبسطه من متعة وغواية وإدهاش فحسب، إنما أيضاً في تمرّده على محاولات التغريب والتحنيط والتنميط، وفيما يثيره من الأسئلة العميقة والمنتجة، إنّ سيادة النصّ هي في تفوّقه على ممكناته، وفيما يكتنزه من قيم ومشاعر ترتقي بإنسانيّتنا، وهي أخيراً فيما يمارسه من تحريض لذواتنا المتبلّدة تدفعنا للإيغال عميقاً في عوالم الحلم والمعرفة والجمال. 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي 

Whatsapp