كثيرًا ما استخدم مفهوم التغيّر الاجتماعي ومفهوم التطور الاجتماعي كما لو كانا يدلان على المعنى نفسه، والواقع أن مفهوم التطور شهد انتشارًا واسعًا في الحقلين البيولوجي والاجتماعي مع ظهور "نظرية داروين" في منتصف القرن التاسع عشر، وكان التطبيق الاجتماعي لهذه النظرية على يد المفكر "هربرت سبنسر" وذلك من خلال المقارنة بين الكائن الحي والمجتمع، والدلالة على أوجه التشابه في اشتراكهما في النمو، وتعقد درجة البناء، وتمايز الوظائف وتطورها.
وسُمي هذا الاتجاه حينها بـ "الداروينية الاجتماعية"، إلا أن انتقادات كثيرة وجهت إليه، ومنها "أن المحاولات المبذولة للكشف عن قوانين الوراثة والتنوع والانتخاب في تطور النُظم الاجتماعية لم تسفر إلا عن القليل من النتائج الحيوية والمهمة"، وأيضًا في انتقاد آخر "أن هناك اختلافًا واضحًا بين التطور العضوي والتطور البشري، ذلك أن الأول يسير في خط مستقيم وحتمي، بينما الثاني يسير في عدة خطوات وذلك بحسب اختلاف العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية"، والواقع أن النظرية التطورية في الحقل الاجتماعي فقدت الكثير من الشهرة، وانصرف عنها حديثًا علماء الاجتماع، كما تخلوا عن استخدام مفهوم التطور الاجتماعي.
كذلك الأمر فيما يتعلق بمفهوم التقدم الاجتماعي؛ الذي كان يعني في الاستخدام الشائع تغيّر المجتمع من حالته الراهنة إلى حالة أفضل، وقد جاءت نظريات التقدم الاجتماعي لتفسير تغيّر المجتمعات من خلال تقدمها، ومن أبرزهم "جون بيوري" الذي يرى "أن مفهوم التقدم يعني أن الحضارة الإنسانية قد تطورت في الماضي، وهي تتطور في الحاضر، وسوف تستمر في التطور في المستقبل في اتجاه مرغوب"، إذًا؛ يُعبّر مفهوم التقدم عن عملية ديناميكية تتحرك بالمجتمع نحو غاية مُعينة، وهذا ما أدى إلى الخلط بين مفهومي التغيّر والتقدم الاجتماعيين، وقد أشار "جون ديوي" إلى أن هذا الخلط يعود إلى "أن المجتمع الإنساني قد ظل لفترات طويلة في حالة من الإستاتيكية (سكون وجُمود) ساعدت عليها العُزلة النسبية التي عاشتها المجتمعات القديمة، وصعوبة اتصال المجتمعات بعضها ببعض، إلى أن جاء العصر الحديث ومعه الكثير من وسائل الاتصال المادية والمعنوية، والتي أحدثت ثورة في عمليات التفاعل، الأمر الذي أدى إلى تحطيم الحواجز التي بدورها فرضت العُزلة على المجتمعات سابقًا"، وهكذا نشطت حركة المجتمعات بعد طول جمود لتشمل كل شيء، إذ تحولت من الإستاتيكية (سكون وجُمود) إلى الديناميكية (حركة ونشاط وحيوية)، وهذا التحول الجوهري الذي مرّ به المجتمع الإنساني دفع بعضهم إلى اعتبار هذه الحركة الديناميكية ذاتها تقدمًا.
إلا أن انتقادات عدة وجهت إلى هذا الخلط بين المفهومين، بيد أن مفهوم التقدم يختلف من مجتمع لآخر، بحسب ثقافة المجتمع، كما أن فكرة التقدم نفسها قد تتغير بتبدل الظروف والأزمنة، وهي في كل الأحوال فكرة نسبية؛ فالتقدم في مجتمع ما قد يكون تخلفًا في مفهوم مجتمع آخر؛ فيما يرى بعض الناس أن الحضارة الغربية قد قطعت شوطًا بعيد المنال نحو التقدم من خلال التصنيع وارتفاع مستوى المعيشة وتوفر عناصر القوة المادية، يرى البعض الآخر من الناس أن هذا التقدم المادي لا يتضمن المعنى الشامل والأخلاقي للتقدم، بيد أن المجتمعات الغربية تُعاني الفروق الطبقية، وتفتقر إلى العديد من القيم التي تتمسك بها المجتمعات النامية وفق تلك المعايير النسبية، إذًا؛ مفهوم التقدم يُعبر عن محتوى نسبيًا وقيميًا ومعياريًا وارتقائيًا، وهو يستند غالبًا إلى خلفيات أيديولوجية (مجموعة الآراء والأفكار والعقائد والفلسفات التي يؤمن بها شعب أو أمّة أو حزب أو جماعة).
إلا أن واقع استخدام مفهوم التقدم الاجتماعي يواجه صعوبات منهجية، إذ يحمل معنى خط سير المجتمع نحو الأمام، أي أنه يسير في خط صاعد؛ في حين أن مفهوم التغيّر يتضمن إمكانية التقدم أو التخلف، وبالتالي فهو أكثر عملية، بيد أنه يتوافق وواقع المجتمعات التي ليست دائمًا في تقدم مستمر، وهذا لا يعني؛ الاستغناء بالكُلية عن استخدام مفهوم التقدم الذي يبقى متضمنًا قيمة إنسانية واجتماعية، تقوم على الاعتقاد بقدرة الإنسان على صنع أفضل شروط الحياة.
إذ تقتضي الإشارة هنا إلى النقاش حول مفهوم ومضمون الثقافة، وهو النقاش الذي كان يُميز بين المظاهر المادية واللامادية للثقافة، لهذا؛ إن دراسة التغيّر الثقافي (المادي واللامادي) تقتضي فحص كِلا المظهرين، إذ لا يمكن فصلهما، وبالتالي من الخطأ البحث في تأثير أحدهما في الآخر، هذا عدا الصعوبة في أن نفرد عوامل خاصة بالتغيّر الثقافي في الجانب المادي وعوامل أخرى خاصة بالجانب اللامادي، وبالتالي يكون التغيّر الثقافي هو ما يطرأ من تبدل في جانبي الثقافة سواءً أكان ماديًا أم معنويًا، بمعنى أنه تغيّر يحدث في جميع نواحي المجتمع كـ "اللغة، الفن، العادات والتقاليد، تبدل أولويات وسُلم القيم، التكنولوجيا، وغيرها"، وبهذا؛ يُصبح التغيّر الاجتماعي جزءًا من التغيّر الثقافي.
لذلك؛ ليست جميع التغيّرات الثقافية هي تغيّرات اجتماعية، بينما العكس هو جائز، وما دام التغيّر الثقافي هو كل ما يتغيّر في المجتمع، سواءً كان هذا التغيّر محدودًا أو واسعًا، شاملاً المظاهر المادية والمعنوية، وما دام التغيّر الاجتماعي يتناول الجوانب المعنوية لجهة وظيفتها في البناء الاجتماعي وما يترتب عليها من علاقات، وما ينتج عنها من قيم وعادات، أي جوانب لا مادية، وما دام الأمر كذلك فإن هناك علاقة بين التغيّرين، هي علاقة تضمين واحتواء، إذ كل ما هو تغيّر اجتماعي يُعد تغيّرًا ثقافيًا، وليست جميع التغيّرات الثقافية تقع في دائرة التغيّر الاجتماعي، بالرغم من أنها قد تتراكم وتصبح مع الوقت سببًا أو علة للتغيير، كما هو الأمر في دخول التكنولوجيا المتقدمة وغزوها للعديد من أوجه الحياة التقليدية.
ختامًا:
نخلص إلى أن مصطلحي التقدم والتطور لا يوفران منهجيًا البُعد الموضوعي لدراسة عمليات التغيّر من الناحية العلمية؛ فهي تحمل معنى قيميًا وأخلاقيًا يتأثر بالمنطلقات الذاتية للدارس، في حين أن مصطلح التغيّر الثقافي هو ما يطرأ من تبدل في جانبي الثقافة سواءً أكان ماديًا أم معنويًا، بمعنى أنه تغيّر يحدث في جميع نواحي المجتمع، وفي حين أن مصطلح التغيّر الاجتماعي يصف الواقع كما هو كائن فعلاً، وليس كما يجب أن يكون.
د. خالد عبد القادر منصور التومي
باحث وكاتب ليبي