المؤسّسية


                                    

لايزال المثقف العربي يعيش حالة الفردانية والغربة الثقافية في بلاد تفتقر للأجسام الثقافية والمؤسسات البحثية التي تعنى بشؤون الثقافة والمجتمع، وحتى إن وجدت بعض المؤسسات فهي لا تخرج عن النطاق الإعلامي والدعائي، فمنذ أيام كنت أقرأ كتاب لرئيسة منظمة(راند) شيريل بينارد بعنوان (الإسلام الديمقراطي المدني)، والكتاب عبارة عن تقرير مقدم للإدارة الإمريكية عن كيفية التعامل مع الإسلام والمسلمين، وما هي المقترحات التي يجب اتباعها لإبقاء العالم الإسلامي تحت السيطرة، وبعد أن قدَّمت الكاتبة شرحاً مفصلاً عن الفئات الإسلامية والتقسيمات العقائدية من أصوليين وحداثيين وعلمانيين وغيرهم، طبعاً لا يخفى على قارئ الكتاب حالة التطرف التي تعيشها الكاتبة ضدّ الإسلام، وليس موضوعنا ما قالته الكاتبة وما تتبناه من أفكار، إنما ما لَفَتَ انتباهي هو تلك المنظمة (راند) التي تُعتبر منظمة شبه رسمية تقدم الدراسات للإدارة الأمريكية عن كل شعوب العالم، والتي من خلالها يتم صنع القرار الأمريكي، وللعلم  فالكتاب نشر في 2003 وحاولت أن أبحث عن ردود من مفكرين مسلمين على الكتاب فلم أجد إلا حالات فردية لم تتبناها أية جهة رسمية، وتساءلت في نفسي كيف يُصنع القرار العربي والإسلامي؟، وأين هي مراكز البحث والدراسات التي تمدّ الأنظمة العربية بالدراسات والبحوث والتقارير ماعدا تلك التقارير المخابراتية عن مواطني تلك الأنظمة؟، حتى الصحف العربية كانت إما سياسية وهي بمثابة ناطق باسم الحاكم ومهمتها الأساسية إبراز الانتصارات التي يحققها ليلاً لتنشرها صباحاً، وإما صحف فنية تبرز أهمية دور الحاكم في تطوير الفنّ، وإما صحف رياضية تبرّر الفشل الرياضي بسبب الرياضيين أنفسهم رغم كل الدعم المقدّم من الحاكم، وبالنسبة إلى المجلات الفكرية فهي تسبح في فضاء الفكر الذي لا يعرف عن الواقع شيئاً، وإذا أرادت الاقتراب من الواقع فذلك بهدف طرح فكر الزعيم العبقري أو المنطلقات النظرية للحزب الوحيد والأوحد والذي عجزت العقول عن إنتاج منطلقات أُخرى غير منطلقاته .

نعم، هذا واقع بلادنا الثقافي والفكري، وبالطبع فهذا الغياب للمؤسسات لازلنا نعيش تبعاته حتى أيامنا هذه، فالعقلية العربية تربَّت على العمل الفردي وإنه بكل أمر يعلموننا (أنه عليك أن تبدأ بنفسك أولاً)، أما لسان حال العالم يقول (عليك أن تبدأ من مؤسستك فهي التي تربي الفرد) .

وعلى كل حال فلم يختلف الأمر كثيراً بعد ثورات الربيع العربي، ولكن حتى لا نكون من المجحفين بحق بعض الأعمال لا بدّ من الإشارة إلى بعض التغييرات التي حدثت، وخاصة من باب الحريات الفكرية في بعض الصحف والمجلات والقنوات الفضائية، فقد أصبح المواطن العربي يشاهد ويقرأ أشياء كان يخاف أن يحدِّثَ بها نفسه، ولا بدَّ لي من أشير لهذه الصحيفة (صحيفة إشراق) بعد مضي خمسة أعوام على انطلاقتها، طبعاً ليس من باب المجاملة ولكن من باب الإنصاف، فإشراق تتمتع بحرية كلمة كانت بمثابة حلم في ما قبل 2011 م، ورغم أنها تنتمي للتيّار المعارض فلا يوجد أي مشكلة في أن تنتقد أيّاً من رؤوس المعارضة على صفحاتها، وهذا جزء من الحرية التي اندلعت لأجلها ثورات الربيع العربي، طبعاً ليس المشروع إلى أن نصل لصحيفة تتحدث بشيء من الحرية والفكر الحر فحسب، وإنما ما ننشده أكبر من ذلك، فالعمل على الوصول لبلاد تعتمد على مراكز البحوث في صنع القرار، بلد مؤسسات بكل المجالات لا بلد أفراد...

فـ(إشراق) كصحيفة نتمنى أن تكون انطلاقة لتلك الغاية المنشودة كما هو اسمها ولتجسيد قيم الحرية والعمل المؤسسي، فلا بدّ للشمس من بعد الإشراق أن تصل إلى كبد السماء...

 

 

محمد ياسين نعسان 

كاتب سوري

 

Whatsapp