أمـوَاتٌ عَلَـى قَيـدِ الحَيَـاةِ


 

 

"طافِحَةًّ بالإنكسارات"ِ 

وكَكُلِّ العابرينَ

أركبُ قطارَ العُمرِ السَّريعِ 

مَتاعي بَقايا رثَّة لثوبٍ حزينٍ 

رَتَقْتُهُ آلافَ المرّاتِ

"ولا جدْوى ...!"

 تَتساقطُ سَنواتُ عُمري

من ثقوبٍ تقادَمَتْ عليها الخيباتُ

حتَّى اهترأَتْ خيوطُهُ الّتي نَسَجْتُها

بأنامِلي المُتعبَةِ حتَّى آخرِ الأنفاسِ 

"ولا فائدة ...!"

أَتَجوَّلُ في مَمراتهِ المزّْدَحِمةِ بِأشباهِ العابرينَ 

مَقْصوراتٌ مُتتاليةٌ تَتوهَّجُ بالأضواءِ 

ومُوسيقى صاخبةُ تَصُمّْ الآذانَ 

وأَصواتُ أقدامهم الرَّاقِصة

تَنتقِلُ في إِيقاعٍ غَريبٍ أشْبهُ بِحَشْرَجَةِ المَوتِ

في رَجْعِ الصَّدى اللّامُتَناهي في الفراغِ

يَهْمِسُ قَلّْبي بِامتِعاضٍ: 

"أمواتٌ على قيدِ حياةٍ ...!"

تَجْتاحُني مَوجَةٌ عارِمَةٌ مِنَ الحُزنِ 

ورَغبةٌ بِالسُّقوطِ في مَجرَّةِ الكَونِ السَّحيقةِ 

حيثُ: لا أَصواتَ ولا إِحساسَ 

ولا دُموعَ ولا خَيباتٍ 

"لا شيءَ سوى العَدم ...!"

تُغريني هذهِ المَقصورةْ ذاتُ السَّتائرِ الدَّاكنةِ

في سِكوْنِها هدوءٌ يَهمسُ لي ويَحِثُّني على الدُّخولِ 

كفِّي الباردةَ على مِقْبَضِ البابِ 

تَتَجاذبُني أَذرُعُ الرَّاقصينَ: 

"حذار!

إنَّها مقصورةُ الموتِ!"

أَتهالكْ بِبَقايايَ المُنّْهَكَةِ عليْها 

أَنشِدُ الخَلاصَ في قَلبِ العتَمةِ 

حَيثُ لا وجوهَ، ولا وجودَ 

أُغمِضُ عينيَّ 

وأَسمعُ صَريرَ البابِ يُغلَقُ خَلفي

أَسْتسلمُ بألمٍ لذيذٍ لهذا الشُّعورِ الرُّوحانيِّ الغَريبِ

الّذي اجتاحَ كَياني وحَرَّرني من قِيودي الدُّنيويَّةِ 

حَفيفُ خُطواتٍ صَغيرةٍ

وأكفٌّ رَقيقةٌ تَتَجاذبُ أَطرافَ رِدائي 

أَفتحُ عَينيَّ في انبهارٍ 

يَغمُرُني نُورٌ أبيضُ يملأُ المكانَ حدَّ الغرقِ 

تَشّْهقُ رُوحي في سَكْرةِ النَّشوةِ الدَّافئةِ 

تُلاحقُ عينايَ ألوانَ الشَّفقِ بِكُلِّ أَنواعِهِ 

وقَوسُ قُزحٍ يَتدلَّى هُنا وهُناكَ 

ونَثراتٌ من وهْجِ الشُّهبِ 

وفَراشاتٌ ... وطُيورٌ 

ومَلائكةٌ صِغارٌ تُحلِّقُ بِأَجنحةٍ من ضِياءٍ 

يَغمُرُني الضَّوءُ بِحنانٍ 

يُناغي قَلبيَّ المُرهقَ حدَّ اللّاشعورِ

"كَمَبْسمِ أُمي!"

أَضُمُّهُ بتَوقٍ للسَّكينةِ 

يَهدأُ نَبْضي ويَنْتَشي في حُبورٍ 

وأشْهقُ في دَهْشَةٍ: 

"ضَوءٌ مَلموسٌ ...!"

أَعبرُ بَرزخاً للأمنياتِ

أُحاولُ الولوجَ من خِلالهِ إلى نورٍ أشدُّ وهجاً

تُمسِكُني ذِراعٌ قَويَّةٌ تَمنعُني من المُرورِ 

ومَلائكةٌ دُموعُها لآلئٌ من جَوْهَرٍ مَكْنونٍ

تَتوسَّلُ في صوتٍ كَزُجاجٍ مَسحورٍ:

"عودي ... فما زالَ هُناكَ مُتَّسعٌ من الوقتِ"

القَهرُ يُثقلُ كاهِلي 

ما عُدْتُ أَملكُ طاقةً للجَلدِ

والمُقاومةِ والبَقاءِ 

          (أرجُوكَ أيُّها الحَصَّادُ دَعني أعبرُ)

      (هاتِ مِنجَلكَ واجتثَّ رُوحي مِن أعماقِها)

            (فَلا شيءَ يُغريني هُناكَ...!)

يَحملُني النُّورُ بِرفقٍ 

يَحتَويني بِأكثرِ من عينِ أُمي 

يُقبِّلُني 

ويَهمسُ بِتَرنيمةٍ سَماويةٍ كَطَيْفٍ شَفيفٍ:

(حانَ وقتُ العَودةِ يا مريميَّةَ الرُّوحِ)

أتوسَّلُ إليه في ضَراعَةٍ: 

(أرجُوكَ ... دَعني هُنا)

يَدفعُني بِرفقٍ 

لأَجِدَ نَفّْسيَ تائهةً مِن جديدٍ 

مَحكومةً بالسِّجنِ المُؤبَّدِ

خَارجَ مَقصورَةِ: 

المَوتَـى الأحيَّاء ...!!

 

 

افتخار هديب

شاعرة وكاتبة سورية

 
Whatsapp