الإستبداد والهوية الوطنية 


 

هناك صراع لا بدّ من الإعتراف ليس بوجوده فحسب وإنّما بمدى طغيانه على معظم الحوارات التي تدور بين التجمعات والأحزاب التي تحاول تلمّس بداية الطريق السليم الذي يقود شعوب المنطقة إلى الإستقرار... إنها مسألة الهوية الوطنية.

هل هي معضلة بلدان الربيع العربي فقط أم تشمل كل دول المنطقة بدون استثناء؟ المعادلة الثابتة في علم الإجتماع تقول أنّ الإستبداد ينمّي الأفكار المتطرفة ويضعف الشعور بالإنتماء الوطني، بينما دولة العدل والديمقراطية تعزز الإنتماء الوطني وتضعف التطرّف والنعرات الإنعزالية بين مكونات المجتمع الواحد، وما ظهر من حركات متطرفة خلال ثورات الربيع العربي تؤكد ذلك حتى لو تكشّفت لنا حقيقة بعض تلك التنظيمات المصنّعة في الخارج من قبل جهات استخباراتية عديدة لم تعد خافية على أحد.

المشكلة لم تكن في التنظيمات الوافدة لو لم تجد حاضنة لها داخل المجتمع، وهذا ما أريد تسليط الضوء عليه لمعرفة الأسباب الموضوعية التي أوجدت مثل هذه الحواضن وكأنّها بؤر سرطانية نائمة  تنتظر من يوقظها، وأحد أهم هذه الأسباب هي العسكريتاريا التي حكمت بالحديد والنار وصادرت الحريات ونهبت مقدرات البلاد وعمّمت الفقر والجهل لتصبح مجتمعاتنا بيئة مناسبة لنمو الأفكار المتطرفة والولاءات اللاوطنية على حساب الشعور الوطني، وهذا ما عملت عليه الدول الاستعمارية حين عزمت على منح البلاد العربية استقلالها فلم تخرج إلا وقد ضمنت لعملائها الوصول إلى السلطة، فدخلت معظم الدول العربية في مرحلة الاستبداد تمهيداً لتغلغل الأفكار المتطرفة التي أصبحت معولاً يهدم صرح الأوطان الوليدة والتي لمّا تنضج فيها  وتتأصل الهوية الوطنية بعد.

كانت بدايات عهود الاستقلال في معظم الدول العربية قد أخذت السمة الليبرالية، وبدا مستقبل الحياة السياسية في تلك الدول واعداً ولكن سرعان ما جاءت الانقلابات العسكرية لتحرف المسار نحو المزيد من التضييق فهناك على الحدود عدوّ استيطاني اسمه اسرائيل، متجاهلين حقيقة دامغة بأنّ الشعوب المقهورة لا يمكن لها أن تحرز النصر.

والسؤال الجوهري الذي يجب أن نسأله لأنفسنا: هل كانت إيران لتستطيع اختراق مجتمعاتنا لو كانت تلك المجتمعات تعيش تحت ظل أنظمة ديمقراطية تصون الحريات العامة وتدافع عن سيادة القانون؟ هل كانت لتجد عميلاً واحداً لها لو كانت أنظمتنا ترعى مصالح الناس بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الإثنية أو الأيديولوجية؟ وهل كان لقيس الخزعلي (العراقي) أن يقاتل في صفوف الجيش الإيراني ضدّ أبناء بلده في الحرب العراقية الايرانية؟ أو هادي العامري قائد ميليشيا بدر؟ وهل كان ليجرؤ أمين عام حزب الله "اللبناني" حسن نصر الله أن يعلن على الملأ أنّه جندي في جيش ولاية الفقيه؟ أو كان عبد الملك الحوثي ليستبيح أبناء بلده من اليمنيين بالسلاح الإيراني ويستعين بالمستشارين من الحرس الثوري الإيراني؟

نحن إذن أمام أزمة هوية عميقة يجب مواجهتها بشجاعة والإعتراف بأنّ ما نعانيه أكبر من صراع على السلطة أو المكتسبات والمزايا.. إنّه صراع هويات سوف يأخذ مداه ولا يكتفي بالهوية الدينية فحينما تتلاشى الهوية الوطنية فإنه من الطبيعي أن تظهر الهويات الإنعزالية الدينية منها والعرقية والإثنية ـ العرقية والإثنية ليس شرطاً أن تمثلان مصطلحاً واحداًـ وحتى الطائفية، وهذه الهويات ستسعى للإنفصال حكماً لتكون هي المعاول التي تفتت الوطن الواحد.

كلّ ما سبق ظهر بشكل فاقع في سورية التي كانت هي حقل التجارب الحقيقي الذي طبقت فيه قوى الظلام والاستخبارات العالمية تجاربها الخبيثة بعد أن هيّأ لها نظام الأسد المجرم البيئة الملائمة خلال خمسة عقود من الفساد والإستبداد والوحشية ما لم تعرف له البشرية مثيلاً فظهرت مصطلحات لم تكن معروفة لدى الشعب السوري مثل " كردستان الغربية" و" سورية المفيدة" و" دولة الخلافة الإسلامية "، فيما الحسينيات تغزو مدن الفرات وقوافل اللطميات تجوب شوارع دمشق وفي محيط الجامع الأموي وداخله.

في دول الخليج العربي هناك شريحة من المجتمع تمثّل حالة انتكاس في الهوية الوطنية فهواها إيراني بامتياز رغم أنّها تتمتع برفاهية العيش في دول النفط الغنية لمجرّد شعور تلك الشريحة بنوع من الاضطهاد وهو مبالغ فيه تماماً كما فعلت الأحزاب الكردية في سورية حين اعتمدت على المظلومية لترويج أفكارها الانفصالية زوراً وبهتاناً.

 

 

ياسر الحسيني

كاتب سوري 

Whatsapp