الربيع العربي مستمر بدوافعه وروافعه 


 

 

قبل الدخول في الحديث عن حال الربيع العربي وما آل إليه في دوله الخمس الأكثر تجلياً ووضوحاً، لا بد من تأكيد أنَّ ذلك الربيع طاول معظم البلدان العربية، إن لم نقل كلها، وإن بنسب متباينة، وجرى الرد عليه بأشكال، وأساليب مختلفة، وقد اتسمت الردود كافة بالعنف الظاهر أو المستتر المناور، ما يشير إلى صدق تلك الثورات، وضرورتها الموضوعية. ولعلَّ أشكال الرد حددت اختلاف مساراتها تبعاً لكل دولة من دوله. لكن الأسباب العميقة التي دفعت ملايين الشباب العربي إلى تلك الهبّات، وامتلاء ساحات المدن الرئيسة بها، هي واحدة في جوهرها.. إذ لم تشهد المدن العربية الكبرى ذلك النشاط، وتلك الحرارة منذ تأسيس بلادها دولاً قائمة بذاتها، أي منذ حظيت باستقلالها عن الأجنبي.. لتتالى، في بعضها، الانقلابات العسكرية التي أطلقت عليها اسم ثورات، قبل خمسة أو ستة عقود، وعلى الرغم من اختلاف أنظمة تلك البلدان بين ملكي وجمهوري وبين/بين.. فكل الأنظمة فيما كانت تعلنه، وما تكتبه في توجُّه دساتيرها شيء.. وما كان يحصل على أرض الواقع شيء آخر تماماً. 

وقد لخص شباب الساحات مطالبهم في كلمة واحدة هي: الحرية، ومعلوم أن محتوى هذه الكلمة متعدد الأوجه، فهو ينطوي على ما كانت تعانيه شعوب تلك الدول، ولم تزل، مع كل أسف، وهي اليوم على مشارف انتهاء الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.. وتتلخص معاناتها أولاً، وقبل أي شيء، بفشل التنمية الشاملة، والأصح القول بعدم وجودها والتفكير بها.. والأهم في التنمية، جانبها الاقتصادي القائم على الإنتاج الذي ينعكس على تنمية المجتمع بجوانبه كافة: تعليماً ديمقراطياً شاملاً، وصحةً عامة، واهتماماً بالمرافق المدنية كافة، وإلغاءً لفقرٍ مقيمٍ يحول دون خلق شخصية إنسانية متفتحة، وقادرة على العطاء والإبداع.. بينما تنهش وحوش الفساد، ثرواتها وأموالها، ما يشكل عاملاً رئيساً في إفشال التنمية المؤملة.. وبحسب معايير الأمم المتحدة، ومنظمة الشفافية الدولية، فإن حكومات معظم دول الربيع العربي جاءت ضمن أوائل دول العالم فساداً.. فالفساد مرتبط مباشرة باستبداد الحكومات التي تضع دستور البلاد وقوانينها خلف ظهورها، وتطلق اليد لشركائها للعبث بسيرورة اقتصاد البلاد والإبقاء على ضعفه وتخلفه، وبالتالي على تخلف الأمة وإفقار شعوبها.. ويبدأ الفساد من سعي الحاكم لتثبيت حكمه، وكرسيه، بإيجاد حاشية تنطق باسمه درجة التقديس.. فما تقديس الرؤساء أو الشيوخ والأمراء إلا جهل وغشاوة عماء يطلبها الحاكم الذي لا يرى غير نفسه، ولا يلغي هذا الوباء الفظيع إلا الحرية والديمقراطية عدوتا المستبد.. 

صحيح أن بلدان الربيع العربي اليوم أسوأ مما كانت عليه بأضعاف مضاعفة، وهذا الأمر طبيعي، لما جرى فيها من دمار، وتهجير للناس وأموالهم وأدوات إنتاجهم.. ولكن بالنظر إلى إمكانيات معظمها كبيرة جداً، وقد تأتي بالمعجزات، إن هي استخدمت وفق أسس ديمقراطية، وفي أجواء من الحرية، تفترض العمل المؤسساتي، وتنفيذ الخطط التنموية، بدقة ووفق قرارات وبلاغات تكافئ المبدع وتحاسب المقصر. 

المدقق فيما تقدم كله يدرك أن التنمية المتوازنة لا يمكن تحقيقها والسياسة غائبة بحرية أحزابها وبمختلف مؤسساتها وركائزها الرئيسة من مجالس بلدية، وتشريعية، ونقابات، وإعلام حر، ومنظمات مجتمع مدني متعددة، تستند جميعها إلى أنظمة تراعي مصالح الشعب، وتنتخب بحرية ونزاهة تامتين، لا كما يريده الحاكم وأعوانه بعيداً عن أجهزة الأمن وأشكال العسكرة وإطلاق صفة اللون الواحد على المجتمع المتنوع بطبيعته. وهذا جوهر ما طمح إليه الربيع العربي ونالت منه الثورات المضادة بأشكالها كافة سواء المسلحة منها أم الفكر السلفي الرجعي الذي يرى في الديمقراطية عدواً رئيساً.. وبذلك يلتقي مع عقلية المستبد.. 

 إن الانتخابات غير النزيهة توقع المجتمع في مشكلة أخلاقية كبرى، تسم وجهه وروحه وتتشابك مع الفساد بعلاقة شرٍّ متبادلة.. فمن يشرف على عملية الانتخابات من هيئات عليا ودنيا لابد له من القسم القانوني سواء باسم الله أم باسم الشعب، فهو في الحالين تجاوز على ما أقسم عليه، يعني خيانة ضمير، وكذب على النفس والله والشعب. وهذا أمر أخلاقي يفسح، في المجال، لإيجاد بؤر للفساد، لا على مستوى تلك المجموعة، بل على مستوى المجتمع كله، ومع كل أسف إن بلداننا العربية نموذجاً لهذا الأمر المخجل.. كما أن بلداننا العربية كافة لم تستطع أية دولة منها أن تكون نموذجاً ومثالاً تحذو حذوه بقية العرب، رغم أننا نمتلك، في ثقافتنا، قدراً كبيراً من القيم الإنسانية النبيلة.. وهنا يمكن الإشارة إلى فكرة الكواكبي عن الاستبداد، وعلاقته بإفساد الدين والتربية والأخلاق.. فـ "المستبدون لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال".

أوجز فأقول إن ثورات الربيع العربي لم تأت على أرضية التخلف الشامل وحده فحسب، بل إنها جاءت من جهة أخرى هي الأقسى والأمرّ، إذ حفرت في نفس كل عربي ندبة اسمها "الذل والمهانة" التي أتت بها الهزائم العسكرية بفعل الاستبداد وتسلط الحكام وتغييب الحريات منذ عام 1948 التي خلقت في نفس المواطن العربي حالة تراكم مرير من الكبت الوطني إن صح التعبير.. وإذا كانت ظروف السنين الماضية لم تحرك في الناس شيئاً أو أن الوعود والشعارات من جهة، والقبضة العسكرية والأمنية في البلدان التي حكمها العسكر، من جهة أخرى، كانت عامل إعاقة.. كما أنَّ البحبوحة المالية التي أتى بها النفط بعد عام 1973 قد عملت أيضاً على تسكين الجراح، بهذا القدر أو ذاك، لكنَّ ما حدث خلال العقدين الأخيرين من نهوض علمي وتكنولوجي، تجلى بثلاث ثورات على مستوى العالم، محدثاً هزات عنيفة في أذهان الشباب، وأعني بها ثورات" المعلوماتية، والاتصالات، والإعلام أيضاً، وعلى ذلك لم يعد بإمكان أية دولة، مهما بلغت من القمع والاستبداد، أن تتجاهل تأثيرها في الأجيال الصاعدة.. إنها منعطفات مفصلية في التاريخ الإنساني..

إن تلك الثورات لفتت الشباب إلى عالم آخر.. عالم أجمل وأرحب.. عالم فيه مجال لتفتيح مواهبهم، وقدراتهم، والأهم من ذلك، إنه عالم يحترم إنسانية الإنسان، ويسهم في تنميتها.. ومن هنا، ربما، أتت الثورات المضادة التي زاد في سعيرها لا الدول الاستبدادية/العسكرية فحسب بل الدول النفطية أيضاً لأنها خشيت هذه الثورات أكثر من غيرها فهي، وإن كانت تعيش في نعيم إلا أن أنظمتها ما تزال تحكم، على نحو أو آخر، باسم القبيلة، ما يعني أنه ظلال نظام إقطاعي يُعِدُّ الدولة كلها للحاكم أولاً، ولأسرته ثانياً، ثم لأبناء عشيرته الأقربين وهكذا.. فهؤلاء لا تناسبهم مثل هذه الثورات التي سوف تمنح الفرد حريته، وتساويه بالمواطن الآخر حتى هؤلاء القادمين من الفلبين أو من إندونيسيا.. أما الرفاه الاجتماعي فإنه يعود إلى الثراء الفاحش الذي لا يوظف في تنمية إنتاجية تحقق ربحاً دائماً واقتصاداً يتبع الروح الاستهلاكية التي تعتمد على الإنتاج الأجنبي.. إنها "مدن الملح" التي لا تعمّر طويلاً وقد تنبأ لها "متعب الهذال" بطل رواية عبد الرحمن منيف.. ويبقى الربيع العربي ضرورة موضوعية يدركها الشعب، وما يدركه الشعب لابد أن يرى النور.

 

 

محمود الوهب

كاتب سوري 

 

Whatsapp