المناورة الأميركية


 

كتب الصحافي "توم ويكر" مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" تاريخ 25 أيار/مايو 1975 لخص فيه فحوى المحاضرة التي ألقتها "حنا آرندت" في "بوسطن" بمناسبة الاستعدادات للذكرى المئوية الثانية لاستقلال الولايات المتحدة الأميركية عن الحكم البريطاني، وقد تناولت "آرندت" في محاضرتها مسألة خطيرة، هي اتساع الهوة بين حقائق الواقع وأكاذيب الخطاب السياسي في أميركا. وجاءت محاضرتها تحت عنوان «الأكذوبة والصورة». حيث نقل "ويكر"عن "آرندت" قولها إن الميل الأميركي إلى تعمية الوقائع المزعجة بسواتر وحجب من العبارات والصور المضللة قد بلغ مدىً بعيداً بسبب (تسويق السلع الإعلامية) بغرض اتخاذها سلاحًا في غزو الحياة السياسية. وهكذا فإن القراءة المتمعنة في أوراق البنتاغون (الوثائق السرية لوزارة الدفاع عن التدخل الأميركي في فيتنام التي نشرتها نيويورك تايمز في يونيو/حزيران 1971) تبيّن أنه لم يكن لأميركا أي غاية فعلية أو ملموسة من خوض حرب فيتنام سوى «الحاجة التي استشعرتها لإنشاء صورة عن ذاتها عساها تقنع العالم بأنها هي حقا أعتى قوة على وجه الأرض». وعندما لم يعد هنالك مناص من الهزيمة «اعتصرت الحكومة الأميركية مواردها الفكرية الوافرة بغية الاهتداء إلى وسائل لتجنب الإقرار بالهزيمة وللحفاظ على سلامة الصورة». وبفعل هذه الحيل، صارت «هزيمتنا المنكرة المذلة» في فيتنام قابلة للتسويق للجمهور الأميركي على أنها «سلام أُحرز بعزٍّ وشرف».

وعليه فإن ثلاثة أرباع "الانتصارات" الأميركية هي في حقيقتها هزائم وفق المقاييس التقليدية للحروب، إلا أن خُبث الساسة الأميركيين قد حوّل الهزائم إلى انتصارات، خاصة في ظل وجود عملائهم المحلّيين الوظيفيين الذين خدموهم من خلال حروبٍ بالوكالة فاستطاعوا غزو العراق وتونس ومصر وليبيا واليمن وسورية والسودان ومعظم دول الخليج العربي بأدواتهم المحلية قبل جيشهم.

لا تعولوا كثيراً على "المصالحة الخليجية الأخيرة" أو تقارب هذه الدولة من تلك في منطقتنا المحتلة، فالتفاؤل والتعويل يمكن أن يكون مشروعاً ومنطقياً في حالة واحدة: حين تنعتق تلك الدول - وبلا استثناء- من براثن الهيمنة الغربية وتمتلك قرارها المستقل بعيداً عن الإملاءات والأوامر والتوصيات. وما عدا ذلك فالخصومة، والتقارب، والمقاطعة، والتطبيع ماهي إلا مراحل تنفيذية لما يرتئيه المشغِّل الرئيسيّ ((مانح الكرسيّ)).

والثابت أن قوة أميركا تعتمد على هشاشة الأنظمة التي تسيطر عليها وعلى قراراتها وليس على قواها "السوبرمانية الخارقة"، وباعتقادي ان إصرار "الدولة العميقة الأميركية" على عدم تجديد ولاية ثانية لترامب يأتي في سياق الموقف الذي عبّر عنه "رئيس تحرير غلوبال تايمز الصينية" في رده على مسؤولي الاستخبارات الأميركية حين زعموا أن بكين تتمنى هزيمة ترامب، فأجابهم: بل إن العكس هو الصحيح. «إن الإدارة التي تشتغلون لديها قد أعملت معول الهدم في شؤون الداخل وفي علائق أميركا بالعالم، لذا فإن الكثير من الصينيين اليوم يتمنون بقاء هذه الإدارة أربع سنوات أخرى حتى تتمكنوا من إتمام تدمير ما راكمته الولايات المتحدة طيلة قرن كامل».!

نعم فالثابت لدى معظم المحللين السياسيين والباحثين والدبلوماسيين أن "ترامب" أضر إلى حد ما بالمؤسسات الديمقراطية الأميركية إلى درجة تجاوز بها أسلافه الـ 44، إذ لا يوجد مثيل في تاريخ الرئاسة الأميركية لأكاذيبه ومعلوماته المضللة ووقاحته واعتداءاته على وسائل الإعلام والمحاكم والمعارضة السياسية، وجهوده لتسييس مؤسسات الدولة ومطالبتها بالولاء الشخصي، فضلاً عن إساءة استخدامه لسلطته الرئاسية لتحقيق مكاسب سياسية ومالية وإيماءات تعاطفه ودعمه للحكام المستبدين وللجماعات العنصرية اليمينية المتطرفة.

 

 

محمد علي صابوني  

كاتب سوري


 

Whatsapp