الربيع الديمقراطي العربي، شأنه شأن ربيع كل الشعوب، له أسبابه الهيكلية وجذوره التاريخية، ولم يكن وليد لحظة بعينها، إنه من إرهاصات فشل دول ما بعد الاستقلال، فقد انطلق من تونس في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 بمدينة سيدي بوزيد، وسرعان ما أثار ذلك احتجاجات حاشدة في جميع أنحاء المنطقة العربية، وانتقل إلى مصر وليبيا فاليمن والبحرين وسورية ثم الأردن والمغرب والعراق ولبنان والجزائر والسودان، إذ خرج مئات الآلاف للشوارع بجميع بلدان المنطقة العربية تقريباً للتظاهر ضد أنظمة الحكم في بلدانهم حينها، قاطعين بذلك عقوداً من الاستياء المكبوت ضد سيطرة الاستبداد والفساد وسوء الإدارة والعمالة العلنية والمستترة للأجنبي والكيان الصهيوني.
مع أن ميدان التحرير في القاهرة يعدّ مركزاً لزلزال الثورات العربية، إلا أن روح الحرية التي أطلقها ما لبثت أن اختنقت قسراً ضمن سياق الثورات المضادة واستعادة السلطوية والدولة العميلة، العميقة، عافيتها في العديد من الدول العربية، فهل أخفق الربيع الديمقراطي العربي؟ وهل تحوّل إلى خريف وشتاء قارس كما تقول كثير من وسائل الإعلام الغربية والأبواق المرتهنة لها؟ أم أن هناك أسباب عديدة من شأنها أن تفسر التطور الذي آلت إليه ثورات الربيع الديمقراطي العربي؟
فرغم التفاوتات بين دول الحراك الثوري العربي هناك سمة مشتركة بين تلك الدول تتمثل في وجود بيئة إقليمية ليس لديها مصلحة في أن يكون هناك مزيد من المشاركة السياسية والانفتاح الديمقراطي، هذه القوى الإقليمية تحالفت مع قوى الدولة العميقة التي سعت إلى الحفاظ على قوتها، أو استعادتها بدلاً من البدء في بقيام تحول ديمقراطي حقيقي، واعتمادها على مصادر ريعية كان من أهمها النفط والغاز، مع افتقار عميق لمعايير الديمقراطية وتمكين الشعوب من الحكم وإدارة شؤونهم.
وبين ثوراتٍ شعبيّة وأنظمة داعمة للثورات المضادّة، خُفِض عمداً دور العامل الاقتصادي، ورفع شأن العامل الأخلاقي، مسألة الكرامة، أكثر حتى من العامل السياسي (الاستبداد)؛ وهذا مبدأه ونهايته التفكير الأيديولوجي الذي يحكم الرؤى الليبرالية، والتي تريد إعادة التاريخ "مثالياً" للوراء، وكأنّ الأمر بهذا اليُسر، أو كأنّ التاريخ، يجب أن يعود ليبراليّاً! وبالنسبة إلى آخرين إسلامياً!
خلال عقدٍ مضى، اندلعت الثورات، واستلم بعضُ من ادّعى تمثيلها الحكم، وفشل بعضها، وتجدّدت أخريات في أكثر من بلد، إنها حدثت ضد أنظمةٍ مختلفة بشكل النظام السياسي، ولكن هذه الأنظمة متفقةٌ بتحولاتٍ ليبرالية كانت تُجريها بالاقتصاد، ليصبح حرّاً "ليبرالياً"، وكانت نتائجها، إضافة للفساد والنهب، كارثية، وتراجعاً في الصناعة والزراعة، فانهارت أحوال الأغلبية؛ وبإضافة الاستبداد، والطائفية، شكلين للحكم، فإن الوضع دخل بطور الانهيار بدرجاتٍ كبيرة، وبالتالي كانت الثورات، بموجاتها، استجابة لشرطٍ محليّ، وعربيّ بامتياز، أي للسياسات الليبرالية الجديدة أولاً، ولم تكن بأي حالٍ مؤامرات خارجية كما يزعم أعداء الحرية والثورة، والتدخلات الخارجية، ثمً الاحتلالات لهذه الدولة أو تلك، كانت تاليةً لحدوث الثورات، باستثناء العراق، وهذا لا يُلغي أنها كانت تتأهب لإعادة إغلاق التاريخ العربي كلياً، ووضعه تحت السيطرة المباشرة، وإعادة إنتاج منطقتنا على أسسٍ، كانت، الدول الاستعمارية، حاولت ذلك عبر: العشائرية، والطائفية، والمناطقية، والعرقية؛ أليست هذه السياسات ما حاولت زرعه الاتفاقيات الاستعمارية في بداية القرن العشرين؟ وهذه ذاتها ما تُرسَم عليها خريطتنا العربية حالياً! إنها علاقة التبعية بين الأنظمة العربية والدول المسيطرة على العالم، وتطوّرات هذه العلاقة، ومنذ قرنٍ على أقل تقدير، فالتبعية هي ما يجب التفكر والتعقل فيه لفهم طبيعة الأزمات عربياً، ما قبل الثورات، وأثنائها، والأدق منذ كان الاستعمار مباشراً؛ فماذا تفعل أميركا في منطقتنا؟ وكذلك روسيا؟ ألا تتدخلان حالياً في كل شؤون المنطقة، وتبسطان سيطرةً أو احتلالاً هنا وهناك! ولا يخفى أنهما الأقوى عسكرياً، وأميركا اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً.
تحدث الثورات بأكثر من دولة عربية، وأن تتجدّد لاحقاً، وبتزامنٍ، في أكثر من دولة، وأن تستفيد الموجة الثانية من خبرات الأولى، رافضةً أيّ مظهرٍ للتسلح أو الأسلمة، بل وتتجذّر الوطنية فيها، قضايا تتطلب العبرة والعِظة؛ والسؤال، لماذا حدثت في المنطقة العربية في الوقت ذاته، على الرغم من أن الوضع الاقتصادي المتردّي قضية عالمية؟ أليس في الأمر بعدٌ إضافيٌ للاقتصادي؟ نعم هناك بعدٌ قوميٌّ للثورات العربية، وبعكس الرواية الليبرالية التي تستنتج أن الثورات الشعبية انشغلت بقضاياها المحليّة، وتخلصت من إرث الوطنية والقومية وفلسطين! صحيح أنه لم توضع ضرورة الترابط بين الدول العربية وتحرّر فلسطين على طاولة الثورات، ولكن تزامنها، والخليجُ مشمولٌ فيها، ولاحقاً تَدخُلات الدول العربية، سيما الخليجية، في مصيرها، يؤكد ذلك الترابط؛ والقضية كلها أصبحت تتعلق بنهوض العرب أو تخلفهم، سيما أنهم يواجهون في الإطار الإقليمي إسرائيل وأعوانها، وعالمياً أيضاً كل الدول العظمى؛ إذاً كلُّ نقدٍ ضد ضرورة الترابط العربي يَسقط كليّة، فهو حدث من قبل، بالمرحلة القومية، وقبلها، وحدث في أثناء الثورات، وبالتالي يحقّ للثورات وللشعوب تبنّي ذلك الترابط وبشدة، فهو أحد أسس نهوض الأمة العربية.
إن غياب رؤية ثوريّة لضبط السلاح، وعدم خضوع حامليه للمعارضات سمح باستقلاليته، شكّل المناخ المناسب للأنظمة وللحركات المعارضة بالتحوّل لمرحلة العسكرة، لتكون ساحةً لأدواتٍ قد تعمل للخارج، ودخول مرحلة التدمير الممنهج والعشوائي للبلاد، لنستنتج أن الشكل السلمي للثورات هو الصحيح، لغياب التوازن بين طرفي الصراع، وغياب الرؤية الثورية للثورات، وإمكانية ضبط العمل العسكري.
قضية التمويل والمنظمات المدنية أيضاً لم يَسلم منهما أي بلد عربي، ولكن دورهما في سورية كان مُشوِّهاً للثوار وللثورة معاً، ودفعهم للابتعاد عن مصادر محلية لغياب ثقافة التبرع عدا بعض الجمعيات الخيرية الدينية، مما أوقع معظم الثوار والباحثين عن المال، في تلك المصايد، والتمويل عبر مؤسسات المعارضة والفصائل العسكرية أخرجها كليّة من المصداقية أو التفكير بتطوير الثورة، لصالح مشاريع خاصة، ويمكن متابعة من تدفقت عليهم الأموال، حيث فَسدَوا كما رجالات النظام، ولا يخطئ من يؤكّد تلك المساواة في الممارسات، فالتمويل الصحيح يُفترض أن يكون من الداخل، وألا يكون لصالح التفرغ، مما يؤسس لرؤيةٍ وطنية، ويمنع حالات التبعية، ويحاصر المجموعات الانتهازية والبراغماتية التي دخلت إلى الثورات من أجل المال، أو وجدت نفسها في هذا المصير، والحفاظ على سلميّة الثورة يخفف من الاعتماد على التمويل للحدود الدنيا.
برزت أطروحة غير سليمة، بأن الثورات العربية شبابيّة، وكأنّ بقية الأجيال ليست محسوبة، أو غير موجودة في ساحاتها أو أطرها، فلا شك في أنها الكتلة الأكثر تضرّراً من السياسات الليبرالية، ومن فساد السلطات، لكن المسألة تعني جميع الأعمار، بما فيها الأكبر عمراً والأكثر "خضرمة"، واندماج الفئات العمرية والسياسية كلها في معمعة الثورة له دورٌ كبيرٌ في حمايتها من التسلح، وتشكل الأحزاب التاريخية كتنظيماتٍ سابقةٍ للثورات، سدّاً مانعاً في التخفيف من حدّة المواجهة والعنف، ففي سورية استمرت إرهاصات الحراك الشعبي في الشارع لمدة عقدين كاملين قبل انطلاق ثورات الربيع، مُذ بدأت متضامنةً مع انتفاضة الحجارة لتتواصل متضامنة مع العراق قبل وبعد غزوه واحتلاله، مما يؤكد أن هناك واقعاً متفجراً، موضوعياً، يتطلب شغلاً نظرياً كبيراً، وعمـلاً سياسياً جماعياً بالضرورة، والقوى الثورية معنيةٌ بتوسيع قاعدة الحلفاء، وضم أغلبية الفئات الاجتماعية، وصياغة رؤى ونظرياتٍ أكثر حساسية لتعقيدات الواقع، وتغيّرات الثورات ذاتها، فنجد أن الأنظمة طيّفتها، والمعارضة الإسلامية كذلك، وكان محصلته ابتعاد كتلة الأقليات عن الثورة أو وقوفها على الحياد، أو توظيف الأنظمة لها، وهناك كتلة كبيرة من اليساريين والعَلمانيين، اصطفوا لجانب الأنظمة، ولا يُقرأ موقفهم المدان هذا أخلاقياً فقط، بل سياسيّاً، وطبعاً لا تُناقش القضية من زاوية غياب النظرية السياسية العَلمانية اليسارية المسبقة في برامج الثورات، لا، القضية تُقرأ من زاوية تطورات الوضع العام، وإضفاء التطييف على الثورات، فهذا عَزَلَها، ودعم النظم بكتلٍ بشريّة، لا مصلحة حقيقية لها معه.
لم يعد ممكناً الكلام عن ثوراتٍ شبابيّة فقط، ويجب رفض مقولات كهذه، فالثورات إمّا أن تكون شعبيّة وتمتد إلى فئاتٍ اجتماعية متنوعة وعاملة، وحينها تتجذّر الثورة شعبياً وبرنامجياً ووطنياً، أو أنّها ستكرّر أخطاء السابقات، وثورات الموجة الثانية قدّمت خبراتها، والأولى والثانية هي الأساس الصُلب لأيّة برامج ثورية جديدة، وهي ثورات شعبية وليست فئوية، والثورات القادمة ستنتصر بالضرورة.
الواقع العربي متأزمٌ بدرجاتٍ كبيرة، وغير ممكنة أبداً إعادته إلى ما قبل 2011، والسنوات العشر تنتظر استجلاءها، والتنظير عنها وللمستقبل، وهناك مطامع إقليمية ودولية للسيطرة على العالم العربي، وتكاملٌ بين أنظمة عربية كثيرة والكيان الصهيوني، هذا يدفع نحو ثورات عربية جديدة، وبالتالي، هناك ضرورة للتنظير للثورات والانحياز لها، وتهيئة الوعي والعقل العربي من أجل إنجاحها وإدخال الشعوب في حقل المشاركة السياسية، وتغيير الواقع بما يحقّق أهداف تلك المشاركة في العدالة الاجتماعية والتصنيع والتحرّر الوطني والقومي، وصولاً إلى نظامٍ ديمقراطيٍّ على أسس المواطنة وحقوق الإنسان، والفصل بين شؤون السماء وشؤون الأرض.
الأزمة العميقة للوضع العربي، والتدخلات الخارجية، وجديدها فرض التطبيع على بعض الدول العربية، واندماج أنظمة التطبيع مع إسرائيل، سيزيد من تعقيدات هذا الوضع، وسيضع إعاقاتٍ جديدة أمام القوى الثورية العربية مستقبلاً؛ هذا التعدّد لأنظمة الأمر الواقع، داخلياً وإقليمياً وعالمياً، لم يُخمد حركة الشعب الفلسطيني، ولا العراقي، ولا اللبناني؛ وبالتالي لن يخمد كذلك الحراك الثوري العربي كله، والإشكالية الحقيقية تكمن في التباس البرامج الثورية والرؤى والفرضيات والنظريات، التي تَقرأ الواقع، وكذلك في شكل الوعي والتعقل؛ هنا إشكالٌ عميقٌ، وهو لا يلامس خبرات السنوات العشر، وضرورة الخروج بنظريات دقيقة عما جرى، واستشراف المستقبل.
أصبحت مصائر سورية وليبيا واليمن متعلقة بتسويات إقليمية ودولية، وحينما يتمُّ التوافق عليها ستستعيد الشعوب تدفقها، وهذا سيعني تجدّداً في المشاركة السياسية، والثورات وتجدّدها مرتبطان بالنتائج الكارثية للسياسات الاقتصادية الليبرالية، وبأنظمةٍ قمعيةٍ حامية لها ودول داعمة للثورات المضادة، والأنظمة بأغلبيتها، لم تتعلم شيئاً مما جرى، وتحاول إعادة التاريخ إلى الوراء، إذاً فالثورات حادثةٌ لا محالة، حيث المطلوب هو الجوع والتفقير العام، وغياب أي أفق لتحسين الأوضاع العامة، وبالتالي ستزداد الكتلة المفقرة والمهمشة، وستكون وقوداً جديداً حينما تتجدّد الثورات، فلم تعد الشعوب قادرة على الصمت والانزواء وتحمّل غياب العدالة الاجتماعية، فبغيابها ستتجدّد الثورات، حتى تصل لأهدافها بالمشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية والتحرّر من كل أشكال الاستبداد أو الاحتلالات.
لقد أصبح الوضع العربي إمّا لصالح دول إقليمية أو لدول عظمى، يستند هذا إلى حجم الدمار الاقتصادي والتخريب المجتمعي والتسييس الشديد للبنى ما قبل الوطنية، ومشكلة الوعي والعقل السائد أنّه غير واقعي، ولا يغرف مما حدث أمام ناظريه، أو يقوم بمراجعات نقدية، حيث ستنحاز أية رؤية، للثقة بالشعب ووحدة الهدف، وبقدرته على تجديد الاحتجاجات والثورات، وانضمام شباب ثوري جديد لها، كما حدث بالعراق والسودان ولبنان وهي بداياتُ نهوض شعبيّ جديد.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري