بتأخير عقدين عن انطلاق ربيع أوربا الشرقية الخاضعة لهيمنة الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو لأكثر من أربعين عامًا، انطلقت ثورات الربيع العربي منذ كانون أول / ديسمبر 2010 في تونس ثم مصر فليبيا فاليمن فسورية، وإذا كانت ثورات الربيع الأوربي مرت ونجحت بسلاسة ودون تضحيات بشرية بدءً من انهيار جدار برلين، باستثناء البلقان التي كان لها وضع خاص وقسمت لعدة دول بتدخل دول إقليمية وعالمية، فثورات الربيع العربي لم يكن هذا حالها، ومع أن تونس نجحت بتضحيات بشرية قليلة بإسقاط نظام بن على الاستبدادي والفاسد بهروب رأس النظام وأعوانه، ثم نجحت بإجراء انتخابات ديمقراطية وتأسيس برلمان ودستور، إلاّ أن عام 2014 جاء، حسب الرئيس التونسي الأول بعد الثورة المناضل الوطني الديمقراطي المنصف المزروقي، بتحالف للثورة المضادة ضد الثورة، ومن الغريب أن نشهد تحالفًا بين الغنوشي زعيم النهضة "أخوان مسلمي تونس " الذين اضطهدوا من قبل النظام السابق مع رموز النظام السابق "السبسي وشركاه، لينقضوا على الثورة ومؤسساتها ليعود الفساد وليتفاقم الفقر وإيقاف بناء المؤسسات الديمقراطية الحقيقية وتعطيل المشاريع التنموية والعمالة للخارج، ومع ذلك فقد حققت الثورة الكثير من الإنجازات ومنها :إسقاط نظام قمعي بوليسي وتحرير ملايين التونسيين وإطلاق شرارة الربيع العربي ووضع أسس لدولة عصرية ديمقراطية وتمكين التونسيين من حرية الرأي، ثم البدء باسترجاع أموال الكبار المنهوبة على مر عقود، وما زال الحلم بإعادة النمو والتنمية ماثلًا أمام الشعب المنتفض.
لم يكن حال ثورة 25 يناير في مصر بأحسن من حال تونس فبعد إسقاط النظام واستلام المجلس العسكري الحكم والذي أجرى انتخابات رئاسية فاز فيها مرشح الإخوان كانت محل تشكيك، إذ تدخلت بها دول إقليمية وعالمية، قامت ثورة مليونية أخرى بعد سنة من حكم الإخوان، لتقع الدولة مجددًا بقبضة العسكر الشيء الذي لم يكن يريده الثوار قطعًا وها هي مصر تعاني ما تعانيه من حكم العسكر وتسلط رموز الفساد في عهد مبارك الذين عادوا إلى سيرتهم الأولى.
أما في ليبيا ومع ثورة 17 شباط/فبراير التي تدخل فيها الناتو بشكل مباشر وبعد مقتل القذافي تركت البلاد لمصيرها لتحكم دول إقليمية وعالمية بمصيرها وهي إلى الآن تعاني من حرب وقتال وانقسام تهلل له الدول المتنفذة وتغذيه لإعادة ما كان ولكن بدولة مقطعة الأوصال ضعيفة منهوبة تتقاسمها المصالح وأصحاب النفوذ.
أما في اليمن فحدث ولا حرج والجميع يعرف المأساة اليمنية فآل سعود يحققون حلم مؤسس مملكتهم بتدمير اليمن، يشاركهم بذلك مرتزقة إيران وأقزام الإمارات بعد أن قتلوا حليفهم الرئيس السابق وعاثوا في الأرض فسادًا.
وإذ نصل لبيت القصيد، سورية، فهذا حديث يطول، ولا شك بأن أقلامًا كثيرة تناولت الحدث بمراجعات وتحليلات وإسهامات، أغنت الموضوع من كل جوانبه ولن نضيف بعرضنا هذا جديدًا، لكنا نريد أن نؤكد أن ثورات الربيع العربي لم تكن اقتصادية ولا اجتماعية ولا تحررية فقط، بل كانت كل ذلك مجتمعًا، كانت ثورات حرية وكرامة وعدالة مفقودة، ولم تكن مؤامرة خارجية كما يروج بعض الموتورين والحاقدين.
لقد حول النظام سورية إلى مملكة للرعب والقسوة منذ نصف قرن ويزيد، وهذه أنتجت القتل والتشريد والهدم والجوع والمرض، وبمعية حلفائه الخارجيين من روس وإيرانيين وشركاؤهم وميليشياتهم.
ومع أن النظام يروج لمقولة أن النفط بأيدي أمينة، فاتضح أن هذه الأمينة هي بنوك سويسرا وبنوك وعقارات روسيا وبعدها أصبحت الأيدي الأمينة جيوب الأميركيين وشركاؤهم في شمال شرق سورية، ومع أن تقديرات الاقتصاديين أن العائلة السورية يلزمها 600 ألف ليرة شهريًا لتعيش بأمان، فإن رواتب النظام لا تزيد عن عشر هذا المبلغ، ولنتصور كيف يعيش المواطن في الداخل السوري إذا لم يكن شبيحًا أو مستثمرًا كبيرًا، فمع مملكة الرعب والقسوة أصبح الخوف والصمت هو المسيطر، وهذا ما يعمل النظام على تكريسه وإدامته، ولا بد من كسر هذا الحاجز المخيف فالثورة أطلقت الألسن والحناجر وحركت المياه الراكدة ولابد من الاستمرار حتى تحقيق الأهداف التي انطلقنا من أجلها، فلا رجعة قبل الوصول للهدف.
ولابد في حديثنا عن ثورات الربيع العربي ،أن نعرج على الموجة الثانية من موجات الربيع العربي في الجزائر والسودان والعراق ولبنان التي عانت من أنظمة وحكومات فاسدة ومتسلطة ، فقد حكم شخص مثل البشير المعزول ثلاثين عامًا تنازل خلالها عن نصف السودان سلة افريقيا الغذائية بخوضه حروب مدمرة ضد شعبه في الجنوب ودارفور والشمال والشرق متبنيًا نهجًا مدمرًا في الاقتصاد والمجتمع ،أما العراق فبعرفنا مازال محتلًا ولو تبدل الاحتلال من أميركي إلى إيراني دمر العراق ونهبه وقسمه إلى إقطاعات، يحاول الآن شباب بثورتهم الخروج من هذا الوضع ولكنه وضع صعب وخطير فانكسار العراق بالشكل الذي تم به كسر الأمة وعطل مسيرتها التي كانت متعثرة أصلًا.
أما الجزائر والتي عانت ما عانته في العشرية السوداء نتيجة تحكم العسكر الفرانكوفوني وهي البلد العربي الافريقي الواسع والغني بثرواته وشعبه فقام بثورة مجيدة على نظام بوتفليقة الفاسد والمهلهل والذي قطعت جائحة كورونا استمراريتها فهو مستمر بضغطه للوصول إلى أهدافه.
أما لبنان الجميل بأرضه وشعبه ومساحته الصغيرة، فقد عانى الأمرين من احتلالات متتالية صهيونية وأسدية وهو الآن يخضع لاحتلال ولاية الفقيه عن طريق وكيله نصر الله وطاقمه السياسي المتحكم من عصبة طائفية تقدم مصالحها على مصالح الوطن فثورته بين أخذ وصد ولكنها مستمرة وستحقق أهدافها فالرجعة أصبحت مستحيلة. الوطن العربي من محيطه الى خليجه على موعد مع استمرار انتفاضته ضد الظلم والفقر والاستلاب والقمع.
استفادت الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي مما حصل في الموجة الأولى فقد كانت سلمية وهذا ما أزعج السلطات التي تحاول جرها للعنف لتعرف كيف تجهضها بمسميات كالإرهاب والمؤامرات الخارجية والتمويل المشبوه. وهذا سر نجاحها واستمرارها فهذه الأنظمة القمعية لا تقارع بالسلاح بل بالفكر والمنطق والمطالب الحقة.
محمد عمر كرداس
كاتب سوري