كان الفن وما زال في صوره المرئية والمسموعة والمكتوبة تعبيرًا حيًا عن ثقافة الشعوب وفكرهم في جميع نواحي الحياة.
سياسيًا: كان للفن الدور الأول في تأجيج المظاهرات واستمرار الثورات، والتعبير عن سخط الشعوب ورفضهم لواقعهم، وأحيانا أخرى كان لغة رضاهم وحبهم فكانت "وطني حبيبي" وكانت " يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلام" و" وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق" و"موطني" و"أخي جاوز الظالمون المدى" و"الله زمان يا سلاحي" وكل عمل فني منها كان مرهونًا بواقع سياسي يخص فترة زمنية بعينها.
تاريخيًّا: العصور الفنية والأدبية تعطي صورة حية عن تاريخ الشعوب وتبين الوقائع وتحدد الزمان والمكان والحكام فنعرف من خلالها ثقافاتٍ غابت وأمماً رحلت.
اقتصاديًّا: يعدّ فن الإعلانات عصب التجارة في الماضي والحاضر حيث كان العرب يتفننون في عرض بضائعهم في الأسواق التجارية لتسريع عجلة البيع ودفع الركود عن المنتجات، وخير شاهد على ذلك "الخمار الأسود" الذي بات بضاعة كاسدة عند صاحبه إلى أن نُظمت "قل للمليحة".
نفسيا: يظهر دور الفن جليًّا في الناحية النفسية والسلوكية عند المتلقي لدرجة أن علماء النفس حذروا من سماع الموسيقى الصاخبة أثناء قيادة السيارة خوفًا من السرعة التي تتسبب بالحوادث المرورية، في حين تؤدي الموسيقى الهادئة إلى الاسترخاء والراحة، أما علم النفس التربوي فقد كانت مخاوفه جليّة من تأثير العنف الذي تطرحه بعض أفلام الأطفال، وقد تضاعفت المخاوف في عصر التكنولوجيا والألعاب الإلكترونية القائمة على الموسيقى الصاخبة والحركة السريعة والقتل ما يؤدي إلى توتر الطفل وجعله عدوانيًّا وميالًا للوحدة والبعد عن الحياة الأسرية والاجتماعيّة.
فكريًا: يعمل الفن على توجيه الأمم فكريًّا واجتماعيًّا ويدفع مساوئ الخلق والنزوع إلى الجريمة، ويزرع القيم ومكارم الأخلاق، ويساعد على غسيل الأدمغة ومسح الحقيقة وإلغاء فكر وإحلال آخر من خلال دس الأفكار في أدمغة الناشئة دون عناء أو شِدة.
أكاديميًّا: الفن وسيلة من وسائل المعرفة تثري العقل وتثير الخيال المبدع وقد بات جزءًا لا يتجزأ من عمل المعلمين، وأصبحت الشاشة وسيلة إيضاح وضرورة ملحة يوظفها المعلم لنقل المعلومة إلى طلابه، حيث يربط بين العمل الفني وموضوع الدرس فتسهل مهمته وتصل بسرعة رسالته.
قل لي يا حاتم: كيف للمربي أن يشرح لهذا الجيل معنى الثورة وطهرها إن لم يستعن بصورة أبي صالح ونقائه وحكمته في "التغريبة الفلسطينية"؟
وكيف لمعنى "أبت أن تذل النفوس الكرام" دون أن مشهد إبداعي يجسّد عزّة نفس الرجل الحر وأنفته عندما يتعرّض للإهانة على يد موظف الأونروا؟
كيف نصف لهم الفدائي الثائر ونجعله جزءًا من وجدانهم إن لم نستعن بقصيدة إبراهيم طوقان: "هو في الباب واقف والردى منه خائف"؟
كيف سننقل لهم صورة حيّة عن تاريخ آخر ملوك مصر إن لم يشاهدوا مسلسل "الملك فاروق"؟ وكيف سننقل لهم تاريخ الأندلس إن لم نخصهم بالثلاثية الأندلسية: (ملوك الطوائف-ربيع قرطبة-صقر قريش)؟
كيف سننقل لهم عظمة الخلفاء الراشدين إن لم يروها من خلال سيرة "عمر بن الخطاب"-رضي الله عنه-؟ وكيف سنتناول حقبة تاريخية بعيدة جدًا ونحدثهم عن ثقافة القبائل ومفهوم الثأر ونحن في القرن الواحد والعشرين إن لم نلجأ لمشاهد من الزير سالم؟
كيف ننقل لهم أن الفن المحترم يكوّن ثقافة الشعوب ووجدانهم، وأن الاستثناء والاجتهاد واجب، وأن الفراسة هبة، وأن النسر يمتاز ببعد النظر وعشق القمم إن لم نأتِ بمثال حي كحاتم علي؟
كيف نضع صورة ناطقة للخذلان والاضطهاد وإقصاء المبدعين إن لم ير تقاعس النقابة ووزارة الإعلام وأجهزة الدولة عن موكب رحيل المبدعين ذلك المشهد الذي يتكرر يوم رحيل العباقرة كنزار قباني ومصطفى العقاد وحاتم علي؟
كيف نبين أن الإبداع لا يأت من فراغ دون أن يكون حاتم علي حاضرًا، ذلك الرجل الاستثنائي في ثقافته وحواره وإبداعه، حاتم الذي بدأ بالرسم بالكلمات ثم انتقل إلى تجسيد الشخصيات ثم اتجه إلى إدارة العمل الفني فأصبح أيقونة الدراما التي لا تخاف في العمل لومة لائم وبات العراب الذي يعشق الامتياز والتفرد ويؤمن بأن الفن رسالة هادفة؟
كيف للعرب من المحيط إلى الخليج أن يجمعوا على محبته وتقدير كنوزه لولا أنّ أعماله انتزعت إعجابهم لما تحمله من احترام لعقولهم وذائقتهم؟
كيف للفن أن يشكل مرجعا لغويا للناطقين باللغة العربية ولمتعلميها، ونبرهن على رقيّ أمتنا وحضارتنا إن لم توجد أعمال مبدعة كأعمال حاتم وكلمات نزار ووتر وإبداع كاظم؟
كيف ندفع عن اللاجئين اليأس ونزرع الأمل في نفوسهم إن لم نستشهد بحياة كحياة حاتم علي الذي لم يثنه النزوح وشظف العيش عن الاهتمام بالثقافة وبناء قلعة إبداع شهد لها خصومك ومحبّوك؟
يقال: "لكل امرئ من اسمه نصيب" وكأني بك أيها الحاتم فارساً أبى أن يترجل، لقد صنعت التفاصيل التي اهتممت بها اسمك، وكان قلق المبدع هو الدلالة الأولى على جودة العمل الفني وقيمته لديك.
حاتم علي؛ ستبقى إبداعاتك نبراسًا مضيئاً للأجيال ومنهلاً عذبا كمياه الفرات.
رنا جابي
كاتبة سورية