إعلان مؤجّـل 2


 

في إحدى الأمسيات قرأ «معتصم» قصائده على الشكل الآتي:

العنوان:(فراغ) الربيع

شجر تألّق في المدى

شجر (فراغ) بالندى

شكراً لأشجار السنا

رفّت على أفق (فراغ)

ثمّ قال: تعرفون الباقي ولا داعي للإكمال. كانت الكلمات التي حجبها من القصيدة هي على التوالي: قناديل – تفتّح – الجراح.

وفي قصيدته الثانية «الصيف»، قال:

شجر يتلألأ في (فراغ) قلبي

أم (فراغ) يتململ

أم (فراغ) فراشات وعصافير؟

قال لي في شجن شتوي مزمن:

هل (فراغ) (فراغ) 

وكانت الكلمات المحذوفة هي: عتمة – عشب – رقصات – أفتح مصراعيها – أتوارى – قوقعة.

أمّا القصيدة الثالثة والأخيرة فهي: فراغ في فراغ، يتخلّلها كثير من حروف الجرّ والنصب وكثير من الفراغات...

وهذه الحالة الإبداعية الجديدة تطلّبت نقداً إبداعياً، حيث أبدى «ميس الخافت» إعجابه بما سمع قائلاً:

- إنّ رهافات الشاعر (فراغ) من (فراغ) (فراغ) روحه الميتافيزيقية ممّا (فراغ) في (فراغ) انبثاقاه الرؤيوية لينقلنا إلى مغزى فيزيقية الميتا..

وهكذا نجد أنّه (فراغ) وترك لخيالنا (فراغ) إكمال المعنى وترميم (فراغ) الكلمات الناقصة، مما يشكّل (فراغ) أدبياً جديداً يعتمد على (فراغ) (فراغات) القصيدة.

وهكذا أخفى الناقد كلمات : تنبثق – مناوشات – يدخلنا – مسامات – أمتعنا – الجامح – فجوة – جنساً – تعبئة – فراغات.

أمّا الأستاذ فقد كان يكتفي بكلمتين اثنتين في كلّ أمسية، فيقول في البداية: (فراغ) الأمسية، ويعني نفتتح، وفي النهاية يقول: الآن ننتقل إلى (فراغ) فيغفل كلمة تعقيب.

لكنّه تدخّل هذه المرّة وقال: كنت أودّ لو أنّ الشاعر وضع فراغاً بدلاً من كلمة (أشعل)، لأنّها تخترق نصوص القانون الذي وضعناه في إعلاننا.

لكنّ «شريفة» احتجّت على كلمة (تخترق) وطالبته أن يستبدلها لتصبح (يرتكب مخالفة) عفواً، بل لتمسي (يخالف).

بعد هذه الأمسية أقسمت ألاّ أعود إلى النادي ثانية.

واتّفقتُ أن أقيم كلّ أسبوع أمسية خاصّة بي.. أُحييها.. وأستمع إليها، وأنقد نفسي من دون إعلانات مانعة تكبت ما في داخلي.

وهكذا كنتُ أخرج إلى الفلاة كلّ أسبوع أشتم المختار وأتفوّه بكلّ الكلمات البذيئة التي أعرفها.. بل لقد اخترعتُ كلمات إبداعية جديدة. 

وعقب انتهاء الأمسية كنتُ أتساءل: 

"ولك يا فلان عيب عليك.. كلّ هذه البذاءة في داخلك وتُطالب بالصلاح ؟!

وكنتُ أردّ: يا سيّدي الفاضل.. واللهِ مضطرّاً أفعل.

إذا غابت عيناها وفقدنا مراقبة تفتّح الورود في حديقة خالية من البصّاصين، ولم نعد نستطيع ممارسة شهوة الكلام في ما نراه مناسباً يساعد على ممارسة إنسانيتنا ماذا يبقى ؟!..

وكنتُ أجيب: لكنّك تجاوزتَ الحدود.. يا فلان.. يا حبيبي.. لكلّ شيء حدود..

- صح.. صح.. والله صح وأنتَ قلتها.. لكلّ شيء حدود، للصبر حدود.. وأخشى أن أجنّ من الظلم الذي نباركه، إنّني – يا صاحبي – أمارس علاجاً نفسياً لنفسي بنفسي، ممارسة الحرية ولو بالفلاة أو بالخيال والأوهام أمر صحّي ينشّط أرواحنا.

المهم.. بعد الأمسية ونقدها كنتُ أعود إلى البيت مرتاح الضمير، ومتخفّفاً من أعباء الإعلانات المانعة، وكي أتخفّف من ثقل شبهة الآثام كنتُ أردّد طوال الطريق: أستغفر الله العظيم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله. اللّهم إن كانت شتائمي تذهب بحسناتي، أرجو ألاّ تعطي شيئاً منها لذوي الضمائر الميتة.

اللهمّ إنّ عبداً فقيراً مثلي لا يملك إلاّ الشتائم كي يروّح عن نفسه، أنتَ أكبر من أن تعاقبه على تفاهات يتفوّه بها نتيجة قهر لا يستطيع دفعه سواك.

أستغفر الله العظيم.. أستغفر الله العظيم..

واستمرّت الحال على ذلك خمسة وعشرين أسبوعاً، وحين كنتُ أحتفل بالعيد الذهبي لاستمرار أمسياتي الشتائمية بـدون تعكير؛ تبدّى لي المعارض الحميم في قعر كأس الماء مبتسماً:

- يا فلان.. يا حبيبي.. الناس يحتفلون بالذكرى الخامسة والعشرين باليوبيل البرونزي، وبعد فترة مماثلة يصبح فضياً، ولا يصلون إلى الذهبي إلاّ بعد انقضاء المئة.

- هذه في لوائحهم يا عزيزي، دَرَك المختار قتلوا «أبو ظافر» لأنّه حفر بئراً لنفسه، دفنوه في البئر وردموه، ثمّ احتفلوا بالعيد الفضي لإخماد الفتنة. والمختار نفسه اخترع لنفسه تاريخاً وصرنا نحتفل معه بكلّ يوبيلات العالم من أجله، والمختار السابق «رشاد» هدم مزرعة وليد، لأنّه -بعد خسارته في زراعة الخضروات -شتم الخسّ والبندورة والمقدونس والرشاد، ومنذ ذلك الوقت بدأت حاشية المختار تحتفل بأخوّة الخضروات بعد أن أطلقوا على الرشاد اسم «أخو المقدونس» وفي كلّ عام يقيمون خمسة مهرجانات له: برونزي وفضي وذهبي وماسي ومقدونسي.

- بس!

- أخي لا تزعجني.. مشان الله لا تعترض. أسمّي أعيادي ما أسمّيها ما دمت لا أجبرك ولا أجبر سواك على الاحتفال معي. دعني أفعل شيئاً واحداً يحلو لي.

بعد عودتي من إحدى أمسياتي رأيتُ القرية في ظلام دامس فأيقنتُ أنّ المولّدة الكهربائية الوحيدة في القرية قد تعطّلت، وكما يُقال: «كمل النقل بالزعرور». وبالرغم من أنّني لا أعرف معنى هذا المثل، فإنّه ينطبق على حال القرية وكأنّه سار على لسان الناس من أجلها.

حين سمع القائم مقام المدينة بأمر القرية الظلاميّة وما يجري فيها جنّ جنونه، وأرسل حملةً قوامها عشرين شخصاً من مدرّسين ورجال أعمال وإعلاميين وعسكر بكامل أسلحتهم.

افتتح مقهى وضع فيه إذاعة تنقل الصوت والصورة، وزوّد النادي بمجموعة كتب توزّعت عناوينها على: الديمقراطية – الحرية – العولمة – حقوق الإنسان – أهمّية التعليم.. ولفت نظر كلّ من رأى الكتب عناوين جديدة: مخاطر الأيدز. قوانين التبنّي. تحديث المؤسسات الجنسية. والصحة الجنسية الذي طلب الشيخ استعارته فور وصوله، ورحّب ترحيباً كبيراً بوصول كمّية كبيرة من المطّاط إلى المسجد لزوم اللحى والعمائم ليتمّ تكييفها حسب الظروف على مبدأ شرعي أصولي: (تتغيّر الأحكام بتغيّر الزمان).

أمّا المدرّسون الجدد فقد أحضروا معهم كتباً لكلّ الديانات وشروحاً مختلفة لها، ومقرّرات دراسية جديدة متنوّعة ومحلاّة بالصور التفصيلية، بما في ذلك الأشكال المتنوّعة للتكاثر لدى الكائنات الحية، ووسعوا مناهج الدراسة بإضافة مواد التعليم الرياضي والجنسي والموسيقي والتشكيلي والمبادئ السياسية.

ولم يلبث طويلاً حتّى أعلن المختار تضامنه مع النزعة التحديثية، فشاعت في القرية كلمة جديدة اسمها الديمقراطية صار الناس يتحرّكون باسمها.

نتيجة الظروف الجديدة حنثتُ بقسمي، وعدتُ إلى متابعة أمسيات النادي.

بعد أسبوعين أو ثلاثة دخل الرجل الضخم تسبقه رائحة عطر فرنسي، لم يبدُ الناتئ الحديدي من تحت حزامه، وإنّما لاح بيده شيء قال لنا الأستاذ فيما بعد إنّه الحاسوب.

وبلطف زائد وصوت هامس أطلق بضع كلمات تطري العصر الحديث وتبيّن مزايا الديمقراطية، ثمّ أبدى رجاءه الحارّ بأن تُشطب كلمة السياسة من الإعلان، انسجاماً مع التطوّر الحديث الذي يبيح للناس كافّة مناقشة الأمور السياسية لأنّها تعنيهم.. ولأنّها وُجِدت من أجل خدمتهم. ثمّ تتالى الوافدون.. الشيخ الذي خلع لحيته واكتفى بمصحف مذهّب على صدره رجا الأستاذ أن يعفي الدين من وصمة عار الشجب والمنع والإرهاب..

فشطب الأستاذ كلمة «الدين» من الإعلان.

و«شريفة» سترت كلّ ذرّة من جسدها بـ«فيزون» رقيق من لون جسدها وقالت: الجنس صار عِلماً ولم يعد من مبرّر لمنع الحديث عنه.

الرياضيون أباحوا الألوان واستجاب الأستاذ بشطب جميع العبارات المضافة من الإعلان، ولم يعد الإعلان متضمناً سوى كلمة واحدة:

«إعلان هام»

إنّ النادي الأدبي الفني الثقافي يعلن لأعضائه الكرام ومحاضريه وأدبائه بأنّنا: لا نتدخّل.

ثمّ غدت أمسيات النادي يومية انسجاماً مع حركة التطوّر في قريتنا، وهكذا أصبحنا نأتي كلّ يوم إلى النادي، نجتمع في موعد ثابت ومحدّد ودقيق، لحضور الأمسيات التي باتت حضارية تبعاً للعصر الديمقراطي، فلم يعد مبرَّراً أن نستمع جميعنا إلى شاعر أو محاضر واحد، بل بتنا نساهم جميعاً في الأمسية وبوقت واحد، وبشكل نموذجي يلغي الحاجة إلى النقد والنقاش العقيم.

فبعد أن يقدّم الأستاذ الأمسية، نلتفّ جميعاً حول طاولة أسطوانيّة كبيرة: ولا نتدخّل. ساعة بالتمام والكمال نتوادع بعدها كلّ إلى منزله ليتابع فيه عدم التدخّل في شؤون الأسرة في عصر الديمقراطية.

لكنّني - في الحقيقة - بتّ أنسلّ في كلّ يوم إلى الفلاة كي أتابع أمسياتي الانفرادية.. أشتم وأنقد وأتحاور معي، ثمّ أتضرّع إلى الله كي يرسل طيراً أبابيل تودي بمختار القرية وبالقائم مقام المدينة، وتستبدل بشيخنا رجلاً تضفي عليه الوقار لحيةٌ أصيلة.

البارحة، بعد أمسيتي الخاصة، كنتُ متضايقاً حتّى الثمالة..

لم أعد إلى البيت فور انتهاء أمسيتي، بل تابعتُ صياحي في أمسية متميّزة استمرّت فوق صخرة تطلّ على القرية من أحد ثغورها.

ولشدّ ما كان تعجّبي كبيراً، حتّى كدتُ أصيح من الفرح وأنا ألمح روّاد النادي يعودون واحداً إثر الآخر من أماسيهم الخاصّة.. وآخرهم الـذي لم أستطع مع رؤيته صبراً فركضتُ خلفه منادياً:

- أستاذ..

التفت إليّ.. أطلق ابتسامة صافية باتّجاهي.. وحين وصلتُ إليه، صافحني قائلاً: 

- غداً نحاول تمزيق الإعلان.

 

 

د. محمد جمال طحان

كاتب سوري

Whatsapp