الواقعية السياسية


                        

 

الواقعية السياسية تشير إلى السياسة أو الدبلوماسية التي تستند في المقام الأول على العوامل والاعتبارات العملية والمادية، بدلاً من المفاهيم العقائدية أو الأخلاقية، وفي هذا الصدد فهي تشترك في جوانب من مقاربتها الفلسفية مع مذهبي الواقعية والبراغماتية الواقعية وهي مدرسة نظرية في العلاقات الدولية. 

ونظريات الواقعية السياسية نشأت من خلال أعمال (توماس هوبز) و(نيكولو ميكافيلي)، كنهجٍ للعلاقات الدولية، وقد كان التأصيل الحقيقي للنظرية من خلال (هانز مورجانثو) في كتابه "السياسة بين الأمم" حيث أرسى فيه أهم مقولات ومفاهيم الواقعية السياسية، وبدأت تُستخدم بشكل فعلي بعد الحرب العالمية الثانية .

فالواقعية السياسية هي امتداد لفلسفات المادية الغربية، التي لا تعتمد إلا على الأسباب الواقعية المادية في معالجة المشاكل السياسية الحاصلة، وأن هذه الحلول لابد وأن تنبثق من معطيات الواقع المفروض، فالحلول بهذا المعنى هي من نتاج الواقع والأحداث وليست الحلول هي مَنْ تُغيّر هذا الواقع.

وقد شهدنا في السجالات السياسية الخاصة بالثورة السورية مؤخراً استخدام كبير لمصطلح الواقعية السياسية، وهو ما جاء به بعض الساسة الغربيين المكلفين بالإشراف على الملف السوري، فأرادوا القول بما معناه أنه علينا كشعب سوري القبول بالحلول التي تلائم الوضع والواقع الملموس، فإزاحة رأس النظام في الوقت الحالي أمر غير واقعي، لأن الواقع يحدد من خلال معطياته وأن (الأسد) ومن خلال داعميه والقوة العسكرية والمناطق المسيطر عليها لايزال يمتلك شرعية من نوع ما ليبقى في سدَّة الحكم...

ففي إحدى لقاءات المبعوث الهولندي (نيكولاس فان دام) يقول إنه على المعارضة الحوار مع النظام رغم أنه لا يمكن أن يصل هذا الحوار إلى أيّ حلّ لأنّ النظام لا يقبل أيّ نقاش بالتغيير السياسي، ورغم اعترافه بأن هذا النظام قاتل ومجرم حرب وأن الشعب السوري مطالبه بالحرية والعدالة محقّة، ولكن الواقعية السياسية تفرض على المعارضة الحوار معه والقبول بحلول تنشأ من هذا الواقع المفروض.

وبعد أن أصّلنا لمفهوم (الواقعية السياسية) ومدلولاته ونشأته الفكرية، وكما نرى إنه مصطلح لا يتماشى مع ثقافتنا والقيم الأخلاقية التي تعتبر المكون الأساسي لثقافة الشعوب المسلمة، فالأسباب المادية في ثقافتنا لا تعني لنا سوى شكلٍ خارجيٍّ لمحركات أسمى وأعلى لهذا العالم، وبمعنى أدق~ فالأسباب المادية هي نِتاج وليست مُنتج، ومتى كان هذا العالم يسير بمقتضى أسباب ومسببات مادية تودي لنتائج محتومة؟!..

وهل التاريخ البشري السياسي محكوم بحتمية مادية؟ !...

وكيف انتصر المسلمون في بدر؟!... 

وكيف استطاع الفيتناميون إخراج 184000 جنديّاً أمريكيّاً من بلادهم؟!...  

وإذا أردنا أن لانذهب بعيدا في الزمان والمكان وتساءلنا، وعلى (الواقعيين السياسيين) أن يفسروا لنا مادياً كيف استطاع ثوار بسلاح فردي أن يسيطروا على %70 من مساحة دولة تملك جيشاً قوامه 400 ألف جندي وفرق مدرعة وكتائب صواريخ ومطارات حربية مقاتلة؟!... 

إنَّ المشكلة الحقيقية هي ليست في الساسة الغربيين فهم عندما يتبنون مفهوم الواقعية السياسية فهم بذلك لايكونوا قد خانوا معتقداتهم، فهذه السياسية متّسقة ومتوافقة مع ثقافتهم الغربية المادية البرغماتية، بينما تكمن المشكلة فيمن يسمّون أنفسهم معارضة ويتصدرون المشهد السياسي وهم بعيدون كل البعد عن الفهم التاريخي والفكري لمجرى الحياة السياسية للشعوب التي ناضلت من أجل حريتها وكرامتها، وراحوا ينساقون وراء فلسفات ورؤى وسياسات مناديب الدول الفاعلة في القضية السورية دون أدنى تفكير في تضحيات شعب قدم كل حياته المادية من أمان واستقرار واكتفاء اقتصادي نوعاً ما من أجلِ نَيْلِ حريَّته وكرامته، ويتذرعون بحجج واهية من أن النظام اليوم يمتلك قوة لا يمكن لقوى الثورة الصمود أمامها وأن المجتمع الدولي ليس مستعد لمناصرة الثورة...

والسؤال الآن، هل النظام اليوم أقوى مما كان عليه في 2011 م؟ طبعا لا، فكيف كانت الثورة على نظام استخباراتي قمعي أمراً واقعياً؟  ومتى كانت الثورات أمراً واقعياً بالأصل؟!...

نعم يمكننا القول أن ثورات الربيع العربي قد مُنِيَتْ بخساراتٍ ماديّةٍ وعسكريّةٍ، ولكن هل نستطيع القول إنها هُزمت فكرياً؟!، ونحن نعلم أنَّ فكرة الحرية قد أصبحت هاجساً في ضمير الشعوب العربية ولا يمكن اقتلاعها بجيوش الأنظمة الجرارة.

بالفعل لقد قالها السوريون (الثورة فكرة) وإن الفكرة لا تموت، وهذا مالم يفهمه رجالات السياسة في المعارضات حتى الآن، ولن يفهموا كيف أن الفكرة يمكنها أن تصنع واقعاً وليس الواقع هو من يصنع الفكرة، والحرية كفكرة هي مَنْ صنعتْ أوروبا الحديثة وليست أوروبا من صنعتْ فكرة الحرية، فعلى هؤلاء (المسيَّسين) أن يفهموا قبل أن يتكلموا باسم شعبٍ قد تجاوزهم في الفهم سنينَ طويلة .

 

 

محمد ياسين نعسان 

كاتب سوري

Whatsapp