جاء خريف ليس ككل خريف. أصابني الوهن وأمراض البرد الشتوية الواحد تلو الآخر، على الرغم من ذلك تحاملت على نفسي ودخلت المطبخ، أشعلت الموقد وصببت مقدارين من الحليب، ثم أضفت ما يلزم من السكر ومسحوق الأرز مستغلة فرصة نومها، والهدوء الذي يسيطر على باقي سكان البيت.
عندما أنجبتها كانت تشبه صوصاً؛ خفيفة مثل ريشة بعظام هشة وحنجرة قوية. يوماً بعد يوم اتضحت ملامحها وتشكلت لتتحول إلى نسخة مصغرة عن أبيها. لو كانت تشبه سلطعوناً بحرياً، أو قرداً من أدغال أفريقيا، فذلك لن يؤثر على جرعة الحنان الأمومي، أو على در الحليب في صدري كلما أرضعتها، ولكنكم لا تعرفون بأنني كنت أرخي طرف حجابي فوق وجهها لأتحاشى رؤيتها، سوى أن ذلك لم يحل مشكلة الغثيان أو البرد أو عادتي في تعقب شقوق السقف كلما صرخت وذكرتني بوجودها الذي أريد تناسيه.
أمام القاضي بلحيته المحنّاة، وعمامته التي تعود إلى ألف سنة قبل يومنا هذا اعترفت:
ماتت... ليس ذبحاً كما تفعلون أنتم في الساحة العامة إنما بسم الفئران. لقمة تلو اللقمة التهمت صغيرتي الأرز الحليب المغلي المخلوط بسم الفئران، تناولته بشراهة، وحين بدأت تتقيأ كنت أمسح عن وجهها لعابها ودموعها وعصائر معدتها، أنظفها متفادية عينيها الجاحظتين.
أنا لم أقتلها، فقد ولدت مقتولة منذ ولدتها. حصتي من طبق الأرز بالحليب قاطعه لسوء الحظ دخول أبيها الذي حال بيني وبين إنهائه. كان من المفروض أن تجدوا جثتين وتعفوني وتعفون أنفسكم من الجهد الذي تبذلونه لدراسة قضيتي. لا أخاف قراركم، فالمتأهب لنهايته لا يخشى العقاب، وإن كنت لا أحبذ طريقتكم. إن الدم يا سيادة القاضي يرعبني.
حين كنت أقلب الحليب المغلي بانتظار أن يسمك ويتماسك لم أفكر بأحد. كنت أجهل مصير أهلي تماماً كما يجهلون مصيري، فكتبت رسالة إلى الله. وضعتها في زجاجة، ودفنتها. ذات يوم سيجدها من يقرأها.
" اسمي مها.. عمري ستة عشر عاماً. طالبة في مدرسة على بعد أمتار من البيت. أحب صديقاتي ودروس الفلسفة، وأكره التاريخ والمديرة التي كانت بين الفترة والأخرى تفاجئنا بوقوفها عند البوابة، كانت تلوح بعصاها لتصطاد أية مخالفة في الزي المدرسي. لا أحب لمَ شعري بمطاطة، ولا تلقي ضربات مسطرتها، لذلك كنت أعود أدراجي وأدّعي المرض، لأتحاشاها.
أغرمتُ بالأستاذة مهيبة، وهي معلمة الفلسفة بقامتها الطويلة وملامحها الصارمة بحاجبين يرتفعان دهشة من فرط براءتنا. تُعلمنا المادة المقررة، وتطلب منا قراءة كتب خارج المنهج الدراسي، تثق بقدرتها على تثقيفنا وتوسيع مداركنا. كانت تترك غرفة المدرسات، وتقف تحت مظلة ساحة المدرسة لنلتم حولها. تسألنا وتناقشنا فيما قرأناه؛ الحرية التي تدق، المسألة الوجودية، مشكلة المعرفة، وإشكالية الأخلاق بأبعادها الثلاث.. نلتُ العلامة التامة متفوقة على جميع زميلاتي، وقررت بيني وبين نفسي ليس الالتحاق بكلية الفلسفة كما تظنون، بل أن أكون ممثلة.. لكن الأقدار لاعتباراتها الخاصة جعلت حياتي تنقلب بين يوم وضحاها رأساً على عقب.
قبل عامين حاصر تنظيم داعش قريتنا من جميع أطرافها، تخلى عنا العالم بأسره، وتركونا لمصيرنا. باعني أبي مرغماً، وقبض الثمن؛ تصريحاً بخروجه من المدينة المطوّقة مع باقي العائلة، وهل كان بوسعه أن يفعل غير ذلك.! بكت أمي بصمت، مسحت دموعها بصمت، وعانقتني بصمت. لم تعترض. سحبت خلفها أخويّ الصغيرين، وتركتني لمصيري. لطالما حيرني ذلك اللغز الذي يشبه دعابة مقيتة: لو انقلب قارب بابنك وأمك وأباك.. أضف ما شئت ممن تحب، وليس بإمكانك سوى إنقاذ أحدهم فقط من غرقٍ أكيد، فمن تختار؟
غرقتُ.. أصبحتُ سبية عند أحد رجال داعش. لم ير وجهي. لم يخترني لجمالي أو لعيني الشمعيتين أو لشحوبي إنما لأنه -وبثمن بخس- يستطيع جمع قطيع من النسوة يسرح في باحة بيته. كانت بيننا طفلة ينتظرها أن تحيض ليضمها إلى فراشه. أحاطنا بسور عال وقوانين صارمة.
عالمٌ من النساء والأصوات والزعيق يستمر طوال النهار، وبقدوم الليل يهدأ الجميع لأن أبو عبادة الصهناوي وضع قدمه عند العتبة، فنقف رتلاً ليشير إلى إحدانا، وهذا يعني أنه اختارها لتقوم على خدمته تلك الليلة، ثم تنصاع لفراشه.
الضجيج يزعجني أتقيأ. أصاب بنوبات هستيرية. أدور في غرفتي. أدق رأسي بالجدار، وعندما تتصلب ساقاي أرتمي على الأرض. أحشو أذنيّ بصوف الفراش، وأنام.
أسألك يا الله إن كان ما حدث يرضيك..! ما الذي اقترفته لأصبح زوجة رغماً عني، وأماً رغماً عني، وقاتلة رغماً عني..!
شرحت لنا مهيبة وهي تضع دائرة حول الأخلاق النسبية بأن الفرد هو الوحيد الذي يستطيع تحديد أفعاله وأفعال غيره إن كانت خيراً او شراً. لا أظنني اقترفت إثماً إلا إذا كان كرهي لإطاعة أوامر العصا يعد خطيئة، أو ربما حين أكذب وأدّعي المرض، أو لأني اخترعت حجة درس إضافي وتسكعت مع صديقتي عند ضفة النهر، أو لأني أردت أن أنقذ ابنتي من مصير السبايا..؟
هل تستحق تلك الخطايا أن أسحق تحت جسد رجل يملك لحية كالمقشة جعلت الحبوب تطفح فوق وجهي..؟!
عندما أصبح بين يديك يا الله..
ارحمني."
سوزان خواتمي
روائية وقاصة سورية