يحصل كثيرًا أن ننجر إلى اتخاذ مواقف حدية – بالمعنى الإيجابي - تجاه شخصية أو رمز أو تيار نال إعجابنا وآمنا بمشروعه أو أسلوب خطابه أو سلوكه تجاه قضية ما فنتصدر للدفاع عن كل تصرفاته وأفكاره والبحث عن تبرير لها، بما في ذلك تلك التي نشعر في أعماقنا أنها ليست صوابًا أو على الأقل في النفس منها شيء.
ويحصل كثيرًا أن ننجر إلى اتخاذ مواقف حدية – بالمعنى السلبي – تجاه شخصية أو رمز أو تيار خالف مشروعنا أو عاداتنا أو أسلوب تفكيرنا فنتصدر للتهجم على كل ما يصدر عنه من تصريحات أو أفكار أو تصرفات، بما في ذلك تلك التي نشعر في أعماقنا أنها أقرب للصواب وأحيانًا أكثر انسجامًا مع توجهنا في تلك المسألة.
يتكرر هذا المشهد أمامي كثيرًا في سياق الحديث عن بعض الشخصيات التي كان لها مواقف سياسية أو فكرية أو سلوكية غير موفقة أو خاطئة أو أحيانا كارثية بالمعنى الحرفي للكلمة. والنتيجة أن يتم رفض أي موقف أو طرح أو سلوك يصدر عن تلك الشخصيات في مجالات أخرى حتى لو كان صوابًا ومفيدًا. لا أنكر أن بعض الشخصيات كان لها مواقف – سياسية أو فكرية – أنتجت كوارث اجتماعية أو ثقافية أو ميدانية لا يمكن تبريرها، دفع ثمنها مجتمع بأكمله، الأمر الذي أحدث حاجزًا نفسيًا يمنع الانسان الذي تأذى بشخصه أو مجتمعه نتيجة لتلك المواقف من مجرد السماع لهذه الشخصيات أو النظر إليها فضلًا عن تقدير بعض مواقفها أو تصويبها، وهذا سلوك له ما يبرره. إذ يصعب على من قتل أهله أو هدم بيته أو اعتقل أبناؤه أو دمرت مدينته أن يقبل النصح أو الوعظ ممن أجاز بقراره أو فتواه تلك الجرائم. لكن تعداد الشخصيات التي ينطبق عليها مثل تلك الحال قليلة جدًا وتشكل استثناء لا يحق لنا أن نعممه على كل من خالفنا برأي أو تصرف أو مسار.
إنها الثنائية الملغومة.. أبيض- أسود أو شيطان- ملاك. تلك الثنائية اللعينة التي تسيطر على مواقفنا وقراراتنا وتخدم بطريقة ما رغباتنا الكامنة بالانتقام من شخصية تخالفنا أو تتحكم بنا أو أحيانًا تتفوق علينا.. إنها بدون شك ثنائية مجحفة على مستوى المنطق والأخلاق، رغم كونها ضرورية في بعض الأحيان على مستوى الإنجاز وتحقيق الأهداف.
نحن بحاجة إلى نزع مفهوم القدوة الكاملة – ما خلا الأنبياء - من أذهاننا. فكل إنسان مهما علا شأنه وحسن مسلكه له سقطات وأخطاء ننتقدها ونرفض اتباعه فيها دون أن يعني ذلك سقوطه من أعيننا أو تجاهل إنجازاته. ونحن بحاجة في الوقت نفسه إلى نزع مفهوم الشيطان البشري – ما خلا بعض الاستثناءات المذكورة أعلاه – من أذهاننا. فكل إنسان مهما عظمت أخطاؤه وعمت شروره له لمسات ومواقف إنسانية نقبلها ونشيد بها ونشجع عليها دون أن يعني ذلك التعامي عن أخطائه. فالمفروض أننا وصلنا إلى مرحلة من النضج تؤهلنا للتمييز والانتقاء والغربلة.
تبرز المشكلة عندما تكون جزءً من مجموعة لديها مشروع وتسعى نحو أهداف كبيرة. أنت مضطر حينها أن تقبل بخطاب المجموعة وتصنيفها للآخرين وأدبياتها التي غالبًا ما تصور عدوها بهيئة شيطان. إن كثرة الآراء في تلك الحالة والخوض بالتفاصيل – التي قد تكون صوابًا – يمكن أن تضعف من قوة المجموعة وتعمل على تفكيك الكيان وتعرقل وصوله لأهدافه. في مثل هذه الحالة أنت مضطر لتبني رأي الجماعة خدمة لمشروعها – بعد فشلك بتصويب رأيها من الداخل -، أو الابتعاد عنها تحقيقًا للانسجام مع ذاتك وأفكارك. ستكون حينها أكثر أخلاقًا ولكن أقل إنجازًا.
لا يوجد في الوجود شيطان كامل ولا ملاك كامل. هناك دائمًا مزيج منهما بنسب متفاوتة.
قد تحتاج أن تصبغ عدوك أو منافسك بصبغة الشيطان كي تحقق أهدافك، لكنك بحاجة أحيانًا أن ترسم له صورة إنسان كي تقنع ذاتك وتنسجم مع أخلاقك.
قد نصادف شخصيات يطغى على صورتها الداخلية والسلوكية اللون الأبيض أو الأسود لكنهم يشكلون الاستثناء النادر. معظم ألوان ذواتنا متدرجة بينهما ومتأثرة في درجة كثافتها بالجو الذي تعيش فيه والبيئة التي تحيط بها.
لا بد أن نمتلك هامش المخالفة لمن نحب والانصاف لمن نكره. ولا بد أن نتعلم مهارة الإفادة من إيجابيات الآخرين حتى لو كانوا أعداء لنا، وتصويب السلبيات حتى لو كانت من أقرب الناس إلينا.
د- معتز محمد زين
كاتب سوري